تبقى الانتقادات في قضايا الفساد مرتبطة بظاهر الأمور ولا سيما في القضايا المعيشية وعلاقات قطاع الأعمال بالجهات الحكومية وما يشوبها من تهرب ضريبي وجمركي وتهريب واستثناءات وحصر بعض النشاطات بزمرة من الأشخاص..
لكن هناك أوجه أخرى لاستنزاف المال العام تشكل “مزاريب” وهدراً بمبالغ هائلة لا يعيها إلا المختصون والمعايشون لها على أرض الواقع، وهي الصيانات التي تجريها الجهات العامة لمعداتها وأصولها الثابتة، سواء الدورية منها أو الصيانات لعطل طارئ، وللأسف تجري هذه الأمور في مختلف القطاعات الصناعية والخدمات وحتى الأمور الحيوية كالصحة والمطاحن والأفران.
أحد الأصدقاء وبعد تخرجه من احدى كليات الهندسة باشر عمله في إحدى الجهات العامة، وبعد عمله لعدة أشهر في قسم الصيانة فوجئ في يوم من الأيام بقدوم متعهد صيانة ليدس في جيبه ٣٠٠ ألف ليرة سماها له “حلوان” قبض مستحقاته، والأنكى من ذلك هو أنه بعدما رفض كرم المتعهد جاء إليه زملاؤه القدامى ولاموه على تصرفه، مبررين أن المتعهد قبض مستحقاته وأن أخذ المبلغ ليس عيباً ولا فساداً، لتكر السبحة وتزداد الهبات مع اقتراب نهاية العام إذ تعمل الجهة التي يعمل فيها على “حلب” جميع اعتماداتها..! والأمر المؤكد أن “الحلوان” المدفوع ليس زكاة أموال أو كرماً حاتمياً، بل هو مقابل توقيع كشوفات مغايرة للواقع..
لا ندري ما هو المقترح الممكن طرحه للحد من الملايين التي تنفق على صيانات وهمية ما دامت قلة الراتب توجد الذريعة لنسبة كبيرة من موظفي القطاع العام حتى يدخلوا إلى عالم الفساد، وأن بعض الاعطال تحتاج لقدرات فنية عالية لاكتشافها وصيانتها، فهل تعجز جهاتنا العامة وهي تمتلك آلاف المهندسين والفنيين والخبراء عن صيانة معداتها من دون الاستعانة بالورش الخاصة حتى لأبسط الأمور؟ وهل توجد معايير للرقابة على بند نفقات الصيانة؟ ألا تلفت حركة الصيانات الكبيرة التي تجري في نهاية العام نظر الجهات الرقابية والجهات المشرفة أن خللا ما يستوجب الوقوف عنده؟
ربما الآن توجد شماعة أزمة الكهرباء وانقطاعاتها المفاجئة والتي يمكن لحظها في التقارير الإنتاجية لمعظم المنشآت العامة كمبرر لانخفاض الإنتاجية لأنها تتسبب في حصول الأعطال المتكررة والتي تتطلب صيانات متتالية و”المصفاة لا يعيبها ثقب جديد” ..