يألفونك فانفر.. ممدوح عدوان الذي كتب كأنّ أحداً لم يكن يراه

تشرين- علي الرّاعي:
“ارفع الباب قليلاً سيدي
كي أمر الآن من غير انحناء؛
كلماتي عمرها لم ترني
منحنياً..”
كان ممدوح عدوان (1941-2004) ، الذي تمر ذكرى وفاته هذه الأيام ، يعيش الحياة كتابة، أو كأنه كان يعيش ليكتب، حتى إن ثمة “تندرا” يذكر أن أي (شيءٍ) بين يدي ممدوح عدوان قد يقلب كتاباً.. وهو الذي كان يُردد: أكتب لأتسلى وأستمتع بالكتابة، وخير ما تكتبه هو ذلك الذي تكتبه، كأن أحداً لن يقرأك.. ذاك الذي تكتبه باطمئنان، وكأنك تعترف.. كأنك تتعرى.. كأنك تضع نفسك المُحملة على طاولة وتشرحها، وأنت مقفل على وحدتك الباب ونوافذ البيت.. بلا خجل.. بلا خوف.. بلا حساب..”. بهذه “النصيحة” قدم ممدوح عدوان نفسه بما يُقارب من خمسٍة وثمانين كتاباً، وستة عشر مسلسلاً تلفزيونياً، ومئات وربما آلاف المقالات الصحفية.. وهو ـ حسب الأديب حسن م يوسف ـ كان يعطي نفسه كلياً لما هو فيه، فهو يكتب، كما لو أن لا شيء في حياته غير الكتابة، وهو يمزح، كما لو أن لا شيء في حياته غير المتعة.. هذا “التنوع” المُدهش جعله “هدفاً” لإطلاق الكثير من الصفات فهو: الساحر، غول الثقافة، زوربا العرب، المتوهج المقبل على الحياة.. لكن عدوان يقول عن ذلك: “إنني أفعل ما أعتقد أنني أستطيع كتابته، وعندما أدخل أحد الميادين، أول ما أطالب به نفسي كل مستلزمات هذا المجال” وإن كان ـ شاعراً ـ في كل ما كتب، أو على الأقل قدّم كل هذا النتاج الإبداعي من بوابة الشعر، حيث بقيت صفة الشاعر هي الألصق بشخصيته حتى وفاته.
ففي فضاءٍ ريفي – قرية القيرون الجبلية، إحدى قرى منطقة مصياف في محافظة حماة، تُبصر عينا “مدحت صبري مصطفى” النور، الذي لم يلبث طويلاً حتى يتمرد على اسمه نفسه المُثبت بقيد النفوس، ويُحرره لاسم سيُعرفه العالم العربي مشرقاً ومغرباً، وسيُردده طويلاً في الأوساط الثقافية العربية، عندما سيجعل هذا المُبدع الاستثنائي يومه سبعين ساعة، كما سأله يوماً صديقه الشاعر الفلسطيني محمود درويش عن سر كل هذا النتاج الثّر والمتنوّع.
في ذلك الزمن الريفي الموحش؛ عرف عدوان شرّ الفقر والجوع، وهو ما دفعه للانخراط في صخب الحياة الثقافية في العاصمة، وهو القادمُ إليها من جبال ووديان لا تعرفُ لخضرتها نهاية، جاء لدمشق لمتابعة تحصيله العلمي، حيث درس في قسم اللغة الإنكليزية، وفي دمشق واجه الحياء والتردد بالهروب إلى الأمام نحو الاقتحام والجرأة والقهقهة الصاخبة في كثيرٍ من الأحيان. وفي الوسط الجامعي سرعان ما برز بين رفاقه شخصاً ذا جاذبية، لاسيما بما عرف عنه في كتابته للشعر أولاً، وراح ينشر أشعاره في المجلات والصحف السورية والعربية، ومنذ عام 1964 غدا اسمه معروفاً في عالم الصحافة السورية.. كان الشعر بالنسبة إليه – يذكر الأديب ناظم مهنّا- تعبيراٍ عن الذات، وفرض الوجود الفردي، ثم تحوّل مع الزمن وتراكم التجربة والوعي إلى تعبير عن الذات المُندمجة في الجماعة أو الأمة، ليُمسي شاعر قضية يُعبّر عنها بكل شجاعة، ومن دون مواربة.
وكان في منتصف الثمانينيات أن قدم ممدوح عدوان مسلسل (دائرة النار)، صحيح أنه لم يشق طريقه في أرضٍ بكر، حيث كان سبقه مسلسل (أسعد الوراق)، لكنه كان بالأسود والأبيض، غير أن (دائرة النار) كانت الانطلاقة الدرامية بالألوان، التي تميزت سواء من حيث الموضوع الذي تناولته، والبعد عن أسر الإذاعة وتقنياتها. ‏
ومع تطور الصناعة الدرامية في سورية بدأ عدوان يعترف بها كجزء مهم من مشروعه الثقافي بدل تركها لمروّجي التفاهة.. فهو يكتب الدراما ليروي قصصاً ويقدم المتعة حسب تعبيره، تاركاً لشخصياته أن تقدم نفسها بعيداً عن أسلوب الدراما المُعتاد، حيث الشر الخالص أو الخير الخالص، فهو يقول: في كل أعمالي ثمة بشر يجب أن نفهمهم، وهم بشر مثلنا، وكل منهم موجود ضمن شروطه المحيطة به، وإيقاع عصره.. مؤكداً أن لا شيء يمكن أن تتلقاه باسترخاء ويكون جيداً.
يعدُّ ناظم مهنا ، ممدوح عدوان من الشعراء الطليعيين، الذين يذهبون إلى أنّ الأولوية في الفن والأدب للقضايا العامة الاجتماعية والوطنية، ويرون أنّ الشكل والمحتوى متلازمان وغير مُنفصلين. والرؤيا الجديدة للواقع تتطلب أشكالاً جديدة للكتابة، وكان عدوان بسبب جسارته وحيويته، الصوت الأقوى بين شعراء جيله، وصاحب الحضور الأوفر والأكثر بين الشعراء السوريين والعرب وحافظ على هذه المكانة حتى رحيله المؤسف.
وفي أربعين رحيله يُرثيه صديقه الشاعر محمود درويش:”ولمّا التقينا عرفتك من سعالك، إذ سبق لي أن حفظتّه من إيقاع شعرك الأول، يُفزع القطط النائمة في أزقة دمشق العتيقة، ويُبعثر رائحة الياسمين. لم يكن لنا ماض ذهبي على أهبة العودة، كما يدّعي رواد المقهى الخائفون من القبض على قرون الحاضر الهائج كالكبش، ولا غد أكيدا، خلفنا، كما يدعي رواد الشعر الخالي من الملح، المُتخم بفراغ المطلق. لم نبحث إلا عن الحاضر.”
يألفونك ‏
فانفر ‏
إلى وطن قد يهاجر فيك ‏
وينسى تغرّبه ‏
ثم تذوي ‏

كأنك شلت الثرى مرضاً ‏
كنت تخضرُّ بالحزن ‏
تقوى كعاصفة.. ‏
قل: أعوذ بما ظل فيّ ‏
إلى ألم ‏..
كنت فيه الربابةَ والجرحَ.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
وافق على تأمين 5 آلاف طن من بذار البطاطا.. مجلس الوزراء يعتمد الإطار الوطني الناظم لتبسيط إجراءات الخدمات العامة 1092طالباً بالثانوية العامة استفادوا من طلبات الاعتراض على نتائجهم قيمتها ١٥٠ مليون ليرة.. أين ذهبت مولدة كهرباء بلدة «كفربهم».. ولماذا وضعت طي الكتمان رغم تحويل ملفها إلى الرقابة الداخلية؟ الديمقراطيون الأميركيون يسابقون الزمن لتجنب الفوضى.. الطريق لايزال وعراً وهاريس أفضل الحلول المُرّة.. كل السيناريوهات واردة ودعم «إسرائيل» الثابت الوحيد هل هي مصادفة أم أعمال مخطط لها بدقة «عائلة سيمبسون».. توقع مثير للجدل بشأن مستقبل هاريس تطوير روبوتات لإيصال الأدوية عبر التسلل إلى دفاعات الجسم المكتبة الأهلية في قرية الجروية.. منارة ثقافية في ريف طرطوس بمبادرة أهلية الأسئلة تدور.. بين الدعم السلعي والدعم النقدي هل تفقد زراعة القمح الإستراتيجية مكانتها؟ نقص «اليود» في الجسم ينطوي على مخاطر كبيرة يُخرِج منظومة التحكيم المحلي من مصيدة المماطلة الشكلية ويفعِّل دور النظام القضائي الخاص.. التحكيم التجاري الدولي وسيلة للاندماج في الاقتصاد العالمي