جمانة نعمان ورسائلها إلى جدّتها التي تجيد الحبّ ولاتجيد القراءةَ

تشرين- راوية زاهر:
«رسائل إلى جدتي التي لاتعرف القراءة »، مجموعةٌ شعرية للكاتبة جمانة نعمان، والصّادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب.. وللكاتبة نعمان رصيد زاخر من الأعمال الأدبية والتلفزيونية يفخر بها سجلها الإبداعي الكبير.
وفي المجموعة الشعرية التي بين أيدينا؛ تناثرت قطع شعرية قصيرة على هيئة وميض شعري بين ثنيات الورق مشكلة لوحة متكاملة من أربعة وخمسين نصاً من قصار القول الشعري لشاعرة حملت في جعبتها إرثَ جدّةٍ مفعمة بالحبّ والجمال والتفاصيل العتيقة.
بدايةً مع عنوان المجموعة:«رسائل إلى جدتي التي لاتعرف القراءة».. عنوان كامل الترف ولايحتاج إلى الكثير من حشو الكلام ليوضح فحواه، فأغلب جدات القرن الماضي عشن في زمن مختلف، زمن الشقاء والأمية والجهل والبساطة ، فلم يعرفن الكتابة ولم يقرأن أنشودة، ولكن رددن الأناشيد وغنين بكامل الجمال والدفء.. أرادت الكاتبة أن تخصّ جدتها بهذه الرسائل لعمق العلاقة التي ربطتها بها، مبتدئة مؤلّفها بنص اعتذار لتلك الجدّة الغارقة بالمثالية والقِدم والحبّ بعد مقدمته:
«لم أكتب إليك
منذ مدّهْ
الحبرُ لدينا ماءْ
ودفاترنا
وطنٌ
أشلاءعدهْ.»
والجدير ذكره هو بداية المقدمة للكاتبة عندما قالت:
«لعلّي
وبقايا الهنود الحمر
آخر الأجيال الرومانسية
التي تكتب
للجدّة.»
وهنا تناص مميز بدأت به الكاتبة، في إشارة إلى عمل روائي للكاتب وليام كامو «الرحيل إلى أرض الجدة».
فقد حضرت البيئة الريفية بقوة في هذه المجموعة، فالجدة تنحدر من ذلك الواقع ومن تلك التفاصيل القروية القديمة التي لم تعد موجودة ربما في الفكر الجمعي للجيل الجديد، ابتداءً من قناديل الكاز والزيت، وتنور الخبز ومعاصر الزيت، والسهرات في عمق ليالي الصيف في جو من الهدوء والطمأنينة بأبواب مشرعة، وعنابر المؤونة وجرار السمن والعسل، وصرير زيزان الحقول التي تقطع سكون الليالي.
وهنا نتوقف بجلال أمام تلك العلاقة التي ربطت الشاعرة بجدّتها، فكانت لقلبها النبض و في عينيها أغنيات لقوس قزح:
«يوم كان الدّوري
يختبئ في جدار
بيتنا العتيق
كنتُ أسكن
حضنك
ممتلئة بالطّفولة
وأغنيات
قوس قزح.»
شعر يشع بالبساطة والهدوء، ومايدل على خصوصية العلاقة بين الشاعرة وجدتها هو صندوق عرس الجدة، «ماذا يعني أن تنتقي الجدة أوالأم ابنة أو حفيدة وتخصها بصندوق عرسها».. هذا خيار لاتقدم عليه الجدة إلا إذا ملكت حفيدتها شغاف روحها وسكنت حنايا الفؤاد، فهذا الصندوق هو إرثها الوحيد ورمز وجودها وحافظ أسرارها، لاسلطة لها في زمن عدم السلطة إلا عليه.. وقيمته رمزية ومعنوية وإنسانية ففيه مختزنات الذاكرة، إرثها وهدايا زواجها، رائحة أهلها وعبق حبهم لها، الذي بقي مادة دسمة لحكايات الجدات، فيه الشباب الذي رحل من دون استئذان، رمز الفرح والتجدد والأغلى على قلب الجدة من البنات أو الحفيدات هي من تستحوذ عليه وماعليها غير حفظ أمانة الذكرى، وفي رحيلها كان للتاريخ طعم النزف من ١١ ك١إلى ١١ك٢:
«شهر تنسّكي
شهر أقرأ فيه
كل ذنوبي
منذ الهبوط من الجنة
وحتى لحظة فقدك.»
وهنا «الهبوط من الجنة» هو بداية الوجود البشري على الأرض.. تناص يعيدنا إلى هبوط سيدنا آدم وزوجه على سطح هذا الكوكب.
جاءت لغة الشاعرة بسيطة جداً اعتمدت في مفرداتها وتراكيبها على لغة المكان والبيئة، وحملت طاقات هائلة ومكتنزة بالحب والفرح والحزن عند الفراق، فقد برزت الكنايات والبلاغة بجلّ معانيها، فالبساطة البعيدة عن التعقيد وضعتنا أمام لغة حية وصور صاحية لاتنام ولاتموت.
أما العاطفة؛ فكانت جياشة غلبت عليها مشاعر الحب والتعلّق والحزن، كما تنوعت أدوات التعبير بين ألفاظ وتراكيب وصور.. وحضر المجاز محلقاً بالتشبيه والاستعارات المستمدة من ثقافة الشاعرة: «العالم مرج أخضر»، «قلبك خير أخضر» تشابيه بليغة تثير الخيال وتنبض منها الأحاسيس.. «طار الجسد الحي»، «فقر يطعن» «الشام الحلوة تنعس».. استعارات تثير حفيظة اللغة، وتترك بوابات الجمال مشرعة على مصراعيها.
كما غلب استخدام الفعل الماضي في محاولة فريدة لترسيخ حالة الحب والعلاقة الخاصة في الذهن، سواء مع أمها التي يبدو أنها رحلت باكراً أو مع جدتها التي حبتها كل كنوز الرعاية والاهتمام: «ذقت، كنت، دعني، سمعنا، سألتُ…. إلخ». وكذلك حضر الخبر والإنشاء من قبيل: «كنت تعدّين لي
فنجان القهوة
ونجلس على الشرفة
نرقب ظهور أوّل نجمة
الآن
أشرب القهوة
او لاأشرب
أتطلع إلى تلك النجمة.»
أما الإنشاء فبرز في كثرة الاستفهام والتعجب الذي يعكس حالة التعلق بهذه الجدة :
«هل ذقت مرارة أن يبكي
من أهوى
أو ييئس؟
ماذا لو كنت الزهرة فوق التابوت العائد؟؟»

وبلعبةٍ من وميض استطاعت الشاعرة أن تلملم مجامع الكلم الذي يحيط بجدّة كانت سيدة الدفء والوجود والجمال، برسائلها التي ربما وصلت بتخاطر الأرواح وربما لم تصل، فالجدة أمية اللسان، عبقرية العاطفة، وبحدة ذكاء هذه العاطفة جعلت من الحب ميزاب الوجود، لتختم الشاعرة بشهقة أخيرة استعارتها من سيد المتصوفة «جلال الدين الرومي»:
«لقد أردتُ الصّمت
.. ياالله
لكن النواح
صعد من روحي
دون.. إرادة.»

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
وافق على تأمين 5 آلاف طن من بذار البطاطا.. مجلس الوزراء يعتمد الإطار الوطني الناظم لتبسيط إجراءات الخدمات العامة 1092طالباً بالثانوية العامة استفادوا من طلبات الاعتراض على نتائجهم قيمتها ١٥٠ مليون ليرة.. أين ذهبت مولدة كهرباء بلدة «كفربهم».. ولماذا وضعت طي الكتمان رغم تحويل ملفها إلى الرقابة الداخلية؟ الديمقراطيون الأميركيون يسابقون الزمن لتجنب الفوضى.. الطريق لايزال وعراً وهاريس أفضل الحلول المُرّة.. كل السيناريوهات واردة ودعم «إسرائيل» الثابت الوحيد هل هي مصادفة أم أعمال مخطط لها بدقة «عائلة سيمبسون».. توقع مثير للجدل بشأن مستقبل هاريس تطوير روبوتات لإيصال الأدوية عبر التسلل إلى دفاعات الجسم المكتبة الأهلية في قرية الجروية.. منارة ثقافية في ريف طرطوس بمبادرة أهلية الأسئلة تدور.. بين الدعم السلعي والدعم النقدي هل تفقد زراعة القمح الإستراتيجية مكانتها؟ نقص «اليود» في الجسم ينطوي على مخاطر كبيرة يُخرِج منظومة التحكيم المحلي من مصيدة المماطلة الشكلية ويفعِّل دور النظام القضائي الخاص.. التحكيم التجاري الدولي وسيلة للاندماج في الاقتصاد العالمي