الحرب على سورية في السّينما.. وثيقة فنية أم وجهة نظر شخصية؟
يقول المخرج الياباني أكيرا كوروساوا: «كلّ النّاس لديهم نفس المشكلات الأساسية، الفيلم الجيد هو الذي يهتمّ بتلك المشكلات»، وعليه فإنّ الحرب كانت ولاتزال المشكلة الأكبر والأكثر أهمية التي يعانيها النّاس في أي بقعة من الأرض، كما وتبقى موضوعاً له خصوصيته سينمائياً ويتطلّب الخوض فيه الدّقة والحذر والموضوعية إن لم يكن ميدانياً إنسانياً واجتماعياً على الأقلّ، ويبقى الفيلم السّينمائي المنجز حول هذا الموضوع وثيقةً لابدّ من التّأكد من صحّتها في حال لم نعشها نظراً لأنّ كلّ طرف يقدّم وجهة نظره.
هذا في العموم أمّا في الخصوص، فقد عشنا الحرب على بلدنا أكثر من عشر سنوات بمرارتها وقبحها وقساوتها، وخلالها قدّم سينمائيون سوريون أفلاماً عدّة تتحدث عن جرائم الحرب وتبعاتها على سورية، بعضها زاد الألم ألماً وبعضها الآخر أضاء على جوانب إنسانية خففت من حدّة الوجع وتطلعت إلى غدٍ أفضل، يقول الصّحفي والأديب والسّيناريست حسن م. يوسف: الفن بالدّرجة الأولى هو أرقى أشكال الاتّصال وكلّ عمل فنّي لا يطير ويحطّ في قلوب النّاس يجب أن ألقي به في سلّة المهملات .. والسّينما فن التّشويق .. نحن نخترع الأساطير ونعبدها، لقد صنعنا صنماً اسمه الوثيقة وعبدناه وصار فوق رأس كاتب السّيناريو..الوثيقة ليست مقدّسة وهي وجهة نظر كاتبها فيما جرى، مثلاً أنا قرأت كلّ ماكتب عن يوسف العظمة حتّى الذي لم يُنشر مع ذلك في الفيلم المنجز عنه لم أتقيّد بأيّ شيء بل ذوّبت هذا كلّه في قلبي وقدّمت الصّورة كما تجلّت فيه.. لم أنسب له أيّ كلمة لم يقلها وهذا ما حصل في مسلسل «حارس القدس» أيضاً.. وفي مسلسل «أخوة التّراب» قدّمت وجهة نظر للتّاريخ كخادم لشعبي وفنّي وليست حقيقة تاريخية من يزعم هذا الأمر.
وخلال الجلسة السّادسة والثّلاثين من لقاء «شآم والقلم» الثّقافي الشّهري التي خصصت للحديث عن كيفية تناول السّينما السّورية للحرب على سورية وأقيمت في المركز الثّقافي العربي بـ«أبو رمانة»، وبالسّؤال عن المباشرة في بعض الأفلام وتصويرها لمشاهد الخراب والدّمار والقتل التي ارتكبتها التنظيمات الإرهابية بحق الشعب العربي السوري، قال المخرج باسل الخطيب: هذا واقع عشناه وكنّا ضحايا له وبالتّالي لانتحدّث عنه من وجهة نظر غريبة.. بالتّأكيد كلّ مخرج يتناول الواقع من رؤيته وما يميّز مخرج عن غيره هو الأمانة والصّدق في نقل هذه الوقائع.. أكثر ما كنّا نعانيه خلال هذه الأعمال أنّنا كنّا نصوّر في هذه الأماكن ونلتقي مع أناس عانوا من الإرهاب أكثر منا وهنا تكمن المشكلة وتدفع المخرج للبحث عن نوافذ جديدة لتناول هذا الواقع.. على سبيل المثال ومن خلال الأفلام التي قدّمتها خلال السنين العشر التي مضت، عرضت الأفلام في كثير من البلاد في العالم على الرّغم من مقاطعتنا، مثلاً عرضت على مدار سنتين في أستراليا وكان النّاس يأتون ويحضرون بوجهة نظر مسبقة لكنّهم يخرجون بوجهة نظر مختلفة ومنهم من قال سنعيد النّظر في كلّ مالدينا تجاه سورية من آراء.. بهذا أعتقد أنّ المخرج يحقق نتيجة ورسالة ومهمّة ويكون للفيلم قيمة فنية ومعرفية تستطيع أن تحقق هذا التّأثير وهناك نماذج كثيرة لحوادث مشابهة لكنّ تناول الواقع أمر حسّاس وخطير ولاسيّما واقع أناس اختبرته..فالسّينما سلاح مهمّ والأفلام هي الوثيقة الفنية الخالدة إن أردنا المبالغة..
إذاً هل على الفنّ عموماً والسّينما خصوصاً أن تكون مرآة للواقع؟ وأيّهما الأجدى تسليط الضّوء على جرائم الحرب على سورية أم على تبعاتها؟ يجيب حسن م. يوسف: يجب علينا جميعاً فنانين وكتّاباً ومخرجين أن نقف ونتأمّل في هذا السّؤال: هل واجبنا تصوير الحرب على سورية كما هي أم نقدّم ارتداداتها وانعكاساتها في سلوك المواطن العادي؟.. نحن صوّرنا الحرب على سورية كثيراً وصورنا الخراب فقط، وعلى الكاتب أن يوقظ البطل النّائم في الإنسان العادي.. ككتّاب وفنانين يجب أن ندخل عبر قلب الإنسان لا عيونه ويجب إنعاش القيم الإنسانية لا أن نكسّر المعنويات.. أنا لا أملّ من احتقار مقولة أنّ الفن مرآة الواقع لأنّها سخيفة وساذجة وسطحية ولا صدق فيها، فالفن ليس مرآة لأنّ المرآة عمياء ترينا ما أمامها، إنّما هو تصفية والتقاط للضّوء الموجود فينا.. الفنّ استبصار وليس مرآة لها قواعد، عندما نقدّم الواقع كما هو ماذا نقدّم للمواطن؟؟. يجب علينا أن نكشف القوانين الخفية خلف هذا الواقع من سبّب المشكلة وألم النّاس يجب أن نسلّط الأضواء الكاشفة وليس بشكلٍ خطابي بل بشكل مقنع وممتع.. مع العلم أنّي في فيلم «رجل الثّورة» صوّرت مشهد المرآة حيث يتحوّل البطل إلى شريك في الجريمة وتنكسر المرآة..
ويختلف الخطيب قليلاً مع يوسف، فيقول: مصطلح الفنّ مرآة ظهر بالأدب الواقعي في القرن التّاسع عشر، بغض النّظر ماهي وجهة نظرنا لكنّ المرآة ليست أداة صمّاء نحن نرى شكلنا ونرى ما بداخلنا أيضاً وفي معظم الأفلام السينمائية أي شخصية محتارة تقف أمام المرآة وكأنّها تعكس أعماق الروح، في فيلم «المرآة» الرّوسي تعكس المرآة كلّ ذلك.
وكما كلّ الحروب العالمية، كانت المرأة في سورية الضّحية الأضعف لكنها بصمودها ورغبتها في الحياة لأجل أطفالها وأسرتها ولأجلها انتصرت في كثيرٍ من الأماكن، ومن هنا كانت موضوعاً مهمّاً في أفلام الخطيب، يوضّح: الثّلاثية أتعبتني والفكرة بدأت من فيلم «مريم» سمعت قصصاً كثيرةً عن نساء سوريّات قدمنّ أمثلةً في التّضحيات، وكان هناك تجسيد لهذا الجانب في الدّراما، لذلك حاولت إنصاف المرأة في السّينما أيضاً ووزّعت الشّخصيات على ثلاثة أفلام، وبشهادة الكثير هي أفلام حققت انعطافاً في مسيرة السّينما السّورية في هذه الفترة..
وبالسّؤال عن التّناول الدّائم للبطل الإيجابي وانعدام وجود البطل السّلبي إن صحّ القول، يوضّح الخطيب: الأفلام التي تقدّم وجهة نظر أخرى مدعومة كثيراً والأبواب أمامها مفتوحة مادياً ومعنوياً في الوقت الذي تغلق كلّ هذه الأبواب أمامنا، أشاهدها لأعرف ما الخطاب الذي يروجّون له، ومع ذلك عندما نستطيع اختراق الحصار الغربي الظالم على بلدنا تكون أفلامنا مؤثّرة كما ذكرت سابقاً، لذا يجب أن نرى تجارب الآخرين وأن يكون لنا موقف منها ونعرف كيف نواجهها.
بدوره، يبين يوسف: نحن حتّى الآن نخاف من البطل السّلبي، وأعتقد أنّ تقديم شيء كهذا يحتاج جرأة وسقفاً عالياً من الحرية الإبداعية ويحتاج عمقاً أيضاً، نحن نفتقد للجرأة والعمق بكلّ بساطة، الأبطال الإيجابيون نقدّمهم بصعوبة وأحياناً يكونون غير مقنعين.. في فيلم «رجل الثّورة» قدّمت حدثاً حقيقياً بطله مصوّر إنكليزي يريد الحصول على جائزة من خلال اختراعه الصّورة ولو على حساب أناس أبرياء، فأحضر الإرهابيين وأحضر المواد الكيماوية لقتلهم في سبيل الحصول على تلك الجائزة.. الفيلم لم يفز بجائزة ولا أعرف ماحدث ولم يحقق النّجاح الطّيب الذي كان مأمولاً منه..أنا رأيت فيلماً من الأفلام التي تقدّم وجهات نظر مختلفة وحاولت أن يكون رأيي موضوعياً ووجدتها بلا روح لذلك هؤلاء الشّباب الذين يعملون بهذه الطّريقة ويجنون أموالاً كثيرة يتحوّلون إلى مرتزقة هجرتهم مواهبهم.. أيّ فنّان ليس مخلصاً للأرض التي نشأ فيها حتّى فنّه يبقى موضع تساؤل مهما كان مبدعاً.
التّصوير خلال الحرب على سورية كان محاطاً بالخطر ولاسيّما الأفلام التي تمّ تصويرها في مناطق كانت قريبة من مناطق وجود الإرهابيين، يبيّن الخطيب: باختصار خلال هذه الفترة وخلال تصوير تلك الأعمال أؤكد أنّنا كنّا نخرج للعمل ولا نعرف إن كنّا سنعود أحياء، ولم أرَ نفسي يوماً كمخرج أختلف عن أي مواطن آخر، أنا مثلي مثلهم أخرج إلى عملي وأعتقد أنّ أحد الأسباب الّتي جعلتنا ننتصر هو استمرارنا بأعمالنا اليومية وواجباتنا ولم أجد نفسي يوماً في موقع يعطيني امتيازاً أنّي أفضل من غيري، التّحديات كانت صعبة وكنت أخاف على من يعمل معي لا على نفسي، كنت أتحمّل مسؤوليتهم.
بدوره، يوضّح حسن م .يوسف: الكاتب يجلس خلف الطّاولة ويصفن في أوراقه، الكتابة لعنة وهي نوع من الطّاغية، كلّ النّاس يعملون ساعات محددة أمّا الكاتب فيدخل مكتبه من دون أن يخرج، مع ذلك الخروج إلى العمل كان بطولة من نوعٍ خاصّ، أنا عانيت هذه التّجربة عندما شارك ابني في أحد الأعمال وكانوا يذهبون إلى داريا ليصوروا، والإرهابيون على بعد أمتار منهم، أنا لم أكتب أيّ نقد عن أي عمل، على الرّغم من الملاحظات الجدية والعميقة، بل في كلّ مرّة كنت أحيي كلّ من يعمل في هذه الظّروف.
ويختم باسل الخطيب: بعد عقود سيأتي من يحضر هذه الأفلام التي أنجزناها خلال الحرب على سورية ويعرف أنّها المرآة المعبّرة والصّادقة والموثّقة لما حصل في الحرب على سورية وماعانه وقدّمه الإنسان السّوري.. الموضوع مهم وهو خيار فنّي ومسؤولية أيضاً.. مسؤوليتي الأخلاقية والفنية والوطنية تجاه نفسي وأناسي وبلدي تلزمني بالحديث عن هذا الموضوع..