«الحساب المفتوح» يوسّع جغرافيا الصواريخ.. والكيان لن يجرؤ على عملية برية في جنوب لبنان.. كيف تحول جمهور «الصبر الاستراتيجي» إلى جبهة إسناد حقيقية للمقاومة اللبنانية؟
تشرين – مها سلطان:
.. يسمونه «الصبر الاستراتيجي» الذي تجيده بكفاءة عالية المقاومة اللبنانية / حزب الله «ومجمل ساحات المقاومة والإسناد لقطاع غزة» وهذا لا يفهمه إلا قلة، حيث إن «الجمهور»، أي السواد الأعظم من الناس، سمته الأساسية العاطفة في الاستقبال والرد، لذلك فهو في الأغلب يكون هشاً – إذا حق لنا التعبير- في التعاطي مع الصدمات والأحداث المفاجئة، وهو ما تستغله وسائل الإعلام المأجورة التي أنشئت خصيصاً للّعب على العاطفة العامة في سبيل تحقيق مخططات وأطماع مستترة، ورغم أنها لا تكاد تخفى على أحد إلا أنها تستطيع النجاح في أحيان كثيرة، ولنا في المنطقة والعالم أمثلة عدة.. لكن مع محور المقاومة اليوم هذه المعادلة العاطفية تختلف، بل هي تنقلب كلياً على العدو وعلى وسائله وأدواته، فما هو واضح جداً اليوم أن محور المقاومة عمل منذ البداية على مسألة الجمهور، جمهور المقاومة، ليكون على مستوى الصبر الاستراتيجي نفسه، أو قريباً منه إلى الدرجة التي تجعله جبهة ثانية، جبهة إسناد للمقاومة.
لذلك يخفق الكيان الإسرائيلي في استدراج جمهور المقاومة إلى دائرة الانفعال والتصرف المنفعل، رغم أن أحداث أسبوع مضى كانت كافية، كما كان يتوهم، بأن تفعل فعلها لناحية محاصرة جمهور المقاومة بضغط نفسي وعاطفي ليتم من خلاله استدراج حزب الله إلى دائرة الرد الانفعالي/ المتسرع، فيكون الكيان حقق هدفه في الحصول على الذريعة والمبرر لتحقيق المستوى الثاني من عدوانه على غزة و«لبنان» من خلال توسيع هذا العدوان خارج غزة وتثقيل مسار الاستفزازات ليس ضد حزب الله فقط، بل ضد دول أيضاً «إيران مثلاً».. والهدف تعميق وتوسيع دائرة المخاوف «بل الهلع الإقليمي» وبما يُجبر الجميع على التفاوض مع الكيان الإسرائيلي درءاً للحرب الموسعة، أو قيام الإقليم بإجبار حزب الله على التفاوض.
أهم ما قام به محور المقاومة هو تعميم حالة «الصبر الاستراتيجي» على جمهور المقاومة فلا يكون أسير حالة الضخ الانفعالي الهائل الذي ينشره الإعلام المأجور
هذا لا يعني أن حزب الله لا يرد، خصوصاً على إرهاب «البيجر واللاسلكي» أو الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، حزب الله يرد ويوجع ولكن ليس بالطريقة التي يريدها الكيان الإسرائيلي، ولا بالحجم الذي يفتح باباً للحرب الموسعة، وبإمكان حزب الله أن يستمر على هذا السياق والمستوى، فعلى المدى الطويل ستكون الهزيمة والتراجع من نصيب الكيان، وهو ما يدركه متزعمو الكيان الإسرائيلي جيداً، ويعملون ليل نهار خصوصاً في الأسابيع الماضية على تغيير هذه المعادلة عبر تشديد عمليات العدوان والغارات.
إخفاق التصعيد
ما بعد إرهاب «البيجر» ثم الغارة على الضاحية الجنوبية التي استهدفت قادة في حزب الله، كان السؤال الأساسي، الذي لا يزال قائماً: كيف سيساعد هذا التصعيد الكيان الإسرائيلي..؟ هل سيصعب على حزب الله تعويض القادة الشهداء..؟ وهل هناك احتمال واحد بالمئة فقط بأن يتراجع حزب الله، ويعلن استعداده للتفاوض؟
المحللون والمراقبون من أصحاب الخبرة والتفكير خارج حالة السياق الانفعالي الهائل الذي تنشره وسائل الإعلام المأجورة، وأولئك الذين يستطيعون النجاة بأنفسهم من هذا الضخ الانفعالي الهائل (والحديث هنا عن الأفراد/جمهور المقاومة)، يستطيعون فعلياً وعملياً قراءة وفهم رد «أو لا رد» المقاومة على الكيان.. على الأكيد كان إرهاب «البيجر» ضربة شديدة على مستوى المقاومة ومستوى جمهور المقاومة، ولا شك أن قدرة الحزب على التواصل والاتصالات داخلياً تضررت بصورة كبيرة، ولو مؤقتاً على الأقل، ولكن كلا المستويين استطاعا سريعاً التدارك والاستدراك، ليأتي الجواب عن ذلك السؤال آنفاً بأن «هذا كل شيء».. صحيح أن هذا الإرهاب قاد إلى استشهاد عدد من قادة الحزب، لكنه على الأكيد لم يسبب فجوة أو فراغاً لا يمكن ملؤه، حيث سيكون هناك بلا شك ثلاثة أو أربعة بدلاء لكل من سقط شهيداً، وهذا ليس قولنا بل قول الكيان عبر وسائل إعلامه.. وفي الكيان دائماً يتذكرون ويذكّرون أن محور المقاومة دائماً ما كان لديه من القادة ما يكفي ويزيد ومن مستوى القوة ذاتها في القيادة والتخطيط والتنفيذ، إن لم يكن أكثر.
المتوقع أن يقدم الكيان على ذروة تصعيد جديدة أكبر وأخطر.. والهدف تعميق حالة هلع إقليمي تجبر الجميع على التفاوض معه أو أن يقوم الإقليم بإجبار حزب الله على التفاوض
وغير خاف أن الكيان يسعى لتكون «الكرة» دائماً في ملعب محور المقاومة، عسى أن تأتي إحدى الضربات في الاتجاه الذي يخدمه، لكن رد فعل محور المقاومة وحزب الله لا يزال منضبطاً في السياق الأذكى والأنجح، ومن المتوقع أن يستمر كذلك حتى لو بلغت الاستفزازات الإسرائيلية ذروة جديدة، وهذه الذروة ستكون قريبة وفق التوقعات.
لكن لن يكون ضمن هذه الذروة الجديدة توغل بري، والكيان لن يجرؤ على ذلك، حتى إن كان يستفز حزب الله ليعطيه ذريعة للتوغل، فمن دون ضوء أخضر أميركي، ومن دون إسناد أميركي، لن يقدم الكيان على عملية برية ستكون طويلة الأمد ونتائجها غير مضمونة، والواضح أن لا دعم أميركياً لهذه العملية البرية، حيث لن تخاطر واشنطن بتصعيد إقليمي وهي على أبواب انتخابات رئاسية.
وعليه فإن الكيان يخفق على مستويين، على مستوى استفزاز حزب الله، وعلى مستوى إقناع أميركا بدعم وإسناد عملية برية.. وبالتالي فإن الكيان مجبر على الانتظار، والانتظار ليس في مصلحته، ولأنه ليس في مصلحته فمن المتوقع أن يكون «الاستفزاز التالي» أكبر وأخطر.
لا حرب موسعة
مع ذلك، هناك اتفاق على أن الإقليم لن يشهد حرباً موسعة، حيث لا يزال الوضع العالمي ومصالح الولايات المتحدة يكبحان قيام الكيان الإسرائيلي بتوسيع الحرب باتجاه شن عدوان واسع على لبنان، لذلك سيستمر الميدان على ما هو عليه.
وهناك اتفاق شبه عام على أن محور المقاومة يدرك تماماً أن هجوم «البيجر» ومجمل التصعيد ما بعده، قد يكون جزءاً من عملية إسرائيلية أكثر تعقيداً وأوسع مدى، وأن أي رد غير محسوب على الكيان من شأنه أن «يحرر» يدي نتنياهو ويكسبه الذريعة و«الشرعية» لشن هجوم واسع على لبنان.
حزب الله يرد ويوجع ولكن ليس بالطريقة التي يريدها الكيان الإسرائيلي ولا بالحجم الذي يفتح باباً للحرب الموسعة وهذا لا يخدم الكيان على المدى الطويل
ولكن ماذا عن مسألة أن استمرار الاستفزاز والتصعيد من شأنه تقليص مساحة المناورة لدى حزب الله و(محور المقاومة)؟.. يسأل مراقبون، ويرون أن لا أحد يستطيع قراءة ما ستكون عليه الأيام المقبلة؟ أو ماذا يدبر حزب الله ما بعد إعلانه عن «الحساب المفتوح» مع الكيان الإسرائيلي؟
وكما هو متوقع استمرت الغارات الإسرائيلية على عدة مناطق جنوب لبنان، مستهدفة (ظهر اليوم الإثنين) السلسلة الغربية لجرود شمسطار وطاريا وبوداي، وعلى السلسلة الشرقية في وادي جنتا، وفي البقاع الشمالي جرود حلبتا وحربتا ووادي فعرا، وجرود الهرمل في الشربين.
وكانت الغارات الإسرائيلية قد استهدفت صباحاً المناطق الحراجية في المنطقة الحدودية وبلدات في أقضية النبطية وصور ومرجعيون وإقليم التفاح والبقاع الغربي. كما استهدفت المناطق والأودية الواقعة بين بلدتي أنصار – الزرارية، وعبا – جبشيت، الشرقية – النميرية، وأطراف كفرتبنيت- النبطية الفوقا، ودير الزهراني – رومين – عزة، وأطراف حومين الفوقا، وأطراف النبطية الفوقا – حي الجامعات، ومحيط أوتستراد كفررمان – الميدنة، وأطراف يحمر الشقيف - أرنون، ومرتفعات إقليم التفاح وجبل الريحان وأطراف بلدة سجد، ومحيط معبر كفرتبنيت سابقاً، وأطراف أرنون – كفرتبنيت.
الحساب المفتوح
وكان حزب الله قد رد على هذه الغارات موسعاً جغرافيا الرد إلى مناطق استيطانية جديدة، مستخدماً قوة تدميرية هائلة بصواريخ استخدمت للمرة الأولى من نوع «فادي 1» و«فادي 2» وفق بيان للحزب، باستهداف قاعدة «رامات» العسكرية ومطارها ومجمع شركة رافائيل للصناعات العسكرية في حيفا.. وهو ما قاد الكيان إلى اتخاذ إجراءات استثنائية على مستوى الملاجئ والمستشفيات في الشمال.
وكان القائد السابق لمنظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي، ران كوخاف، قد حذر من التصعيد في الشمال، معتبراً أنه إذا اندلعت حرب أوسع مع حزب الله فستصبح «تل أبيب» مثل سديروت، في إشارة إلى المستوطنة المحاذية لشمال قطاع غزة التي تقصفها المقاومة اللبنانية بصورة مستمرة.
ووفق هيئة البث الإسرائيلية فإن حزب الله وسّع نطاق إطلاق الصواريخ إلى 60 كم، مشيرة إلى دخول مليوني «مستوطن» في نطاق نيران المقاومة خلال الساعات الماضية.
بدورها قالت «القناة 13» الإسرائيلية: إن المناطق التي وصلت إليها صواريخ حزب الله في الناصرة والعفولة و«مغدال هعيمق» لم تكن مشمولةً بالتعليمات التي وجّهتها الجبهة الداخلية إلى المستوطنين، تحسباً لضربات حزب الله، «هذا يعني أن تقديرات الجيش الإسرائيليّ كانت تستبعد استهدافها من حزب الله».
وذكر الإعلام الإسرائيليّ أنّ الجيش قد يعلن تشديد القيود المفروضة على حيفا ومحيطها، بسبب توسّع مدى الرشقات الصاروخية من لبنان، في حين تقرّر إلغاء الدراسة في شمال الكيان.