«ملف تشرين».. في “رياح الخماسين”.. أسعد فضة.. التمثيل باعتباره دفاعاً عن الذات
تشرين- بديع منير صنيج:
بقدر ما لمع نجم الفنان أسعد فضة منذ بداياته في الإخراج المسرحي لعدد كبير من الأعمال من : “الإخوة كارامازوف”، “دون جوان”، “عرس الدم”، “دخان الأقبية”، “السيل”، “الملك العاري”، “الغريب”، “حرم سعادة الوزير”، و”سهرة مع أبي خليل القباني”،… وذلك بين عامي 1963 و1981، إلا أنه على الرغم من مشاركاته العديدة كممثل في السينما والتلفزيون، فإنه لم يتم إنصافه حسب رأيي، إذ تم حصره ضمن مجموعة ضيقة من الشخصيات وأسلوب الأداء، بحيث خسرنا طيفاً واسعاً من الجماليات كان من الممكن أن نستمتع بها في حال أتيحت لها مسارب الضوء الصحيح، سواء من ناحية الشخصية المكتوبة بإتقان، والرؤية الإخراجية القادرة على تثوير الممثل واستكشاف إمكانيات لم يكتشفها غيره..
فمن المؤسف أن ممثل من رتبة “فضة” رغم وعيه واتساع ثقافته، وامتلاكه أدواته في فن التمثيل، الجسدية والنفسية، إلا أن أغلب المخرجين لم يروا فيه إلا المُتَسلّط، صاحب السلطة، والمُتجبِّر، والمؤذي في بعض الأحيان، ومعظم تلك الأدوار كانت سطحية من دون أبعاد مُركَّبة تحفِّزه على اختراق الحدود المرسومة له مُسبقاً، والتي بات يؤديها ببساطة لكثرة تكرار طلبه على مثل تلك الشخصيات، ومع ذلك كان يسعى للتنويع وفق المتاح في الحدود التي يفرضها الدور ضمن ظروفه الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، وفي علاقاته مع بقية الشخصيات والظرف الزماني والمكاني الذي يحيط به.
ولكنني أعتقد أن هناك بعض ما قدَّمه الفنان أسعد فضة كان ذا نكهة مغايرة على صعيد الأداء، ومن ذلك ما قدمه في فيلم “ليالي ابن آوى” ونال عنه جائزة أفضل ممثل في مهرجان دمشق السينمائي، وهناك بعض الشخصيات التي قدَّمها ضمن الدراما التاريخية بأسلوبية مغايرة من مثل أدائه في مسلسلي “العوسج” و”الجوارح” وتركت بصمة خاصة له عند الجمهور.
ويبقى، برأيي، أن من أهم الشخصيات التي أداها الفنان فضة وكانت الأبعد عن الاستسهال والتنميط الجائر الذي أبداه كثير من المخرجين تجاهه، كانت شخصية “فريد.. أبو خليل” التي قدَّمها ضمن مسلسل “رياح الخماسين” الذي أنتج عام 2008 وهو من تأليف وسيناريو وحوار “أسامة إبراهيم” وإخراج الراحل “هشام شربتجي”، شخصية كلما توغلت فيها أكثر تكشَّفت لك مجاهيل كانت خافية عليك، فهي ليست فقط عن سجين سُجِن بوشاية كاذبة من أخ زوجته صاحب السلطة وقضى خلف القضبان (15) عاماً، بل عن إنسان واجه الكثير وتحمَّل الكثير داخل السجن وخارجه، واكتشف مع مرور الزمن أن الحياة خارج السجن أقصى وأكثر وحشية، خاصةً مع نظرة الآخرين المقتنعين بأنه خان بلده، بمن فيهم أقرب المقربين إليه، لكنه بذكائه وإنسانيته العالية استطاع ترويض العُنف الموجه إليه، تاركاً لمواقفه أن تشرح من هو، وكيف أنه لم يستطع أن يكون جاحداً رغم كل الظلم الذي تعرض له، بل على العكس تمكَّن بروح الإنسان المشعة بداخله أن يقهر الأفكار الظالمة عنه، ويُفكِّك المنظومات الاجتماعية المعززة لها، وذلك بمحبته فقط، ووداعته وصبره المديد.
طبعاً يشمل ذلك فرضه احترامه أمام أبنائه وبناته على اختلاف مواقفهم منه، وأيضاً على محيطه القريب والبعيد، حتى أنه خلخل منظومة الفساد التجارية السائدة آنذاك، بإثبات أن الطيبة والرأفة بالفقراء ومحدودي الدخل قادرة على أن تجعلك رابحاً أيضاً، وغير ذلك الكثير من الأفكار التي امتلك ناصيتها الممثل القدير “أسعد فضة”، مؤسساً لأداء هادئ متزن، وفي الوقت ذاته يضج داخلياً، بحيث إنه كما قال السيناريست “أسامة إبراهيم” في تصريح خاص لجريدة تشرين: “لامس روح شخصية فريد أبو خليل، وأحاط بالشخصية من كل جوانبها النفسية والفكرية والإنسانية…
تبنى الشخصية وأحبها من لحظة قراءته النص، وأحس بوجود تقاطعات عدة بين شخصيته وشخصية فريد، وكان الفنان أسعد فضة أميناً جداً على الشخصية وأعطاها من روحه وموهبته وخبرته، لدرجة التماهي، ما يدل على فهمه الكبير لشخصية فريد وتبنيها والدفاع عنها وعن أفكارها وكأنه يدافع عن أسعد فضة وأفكاره ذاتها، طبعاً كان ذلك ضمن إطار عمله كممثل، وخارج هذا الإطار عندما تعرض العمل للإيقاف والمنع”، ومن ثمّ بعد ذلك الموافقة.
وأضاف إبراهيم: “أعتقد أن مسلسل رياح الخماسين أخرج الفنان أسعد فضة من حالة النمطية للكثير من الشخصيات الدرامية التي أُسندت له والتي كانت تتميز بالسلطوية أو إنها صاحبة النفوذ، رغم تنوع تلك الشخصيات بين التاريخي والاجتماعي المعاصر، أو أعمال ما يسمى بالفنتازيا. فمعظم تلك الشخصيات هي شخصيات قوية تستمد قوتها إما من قوة السلطة أو من قوة المال، على نقيض شخصية فريد أبو خليل المتواضعة المتفانية والمُحبة، التي تستمد قوتها من المنظومة الأخلاقية والفكرية التي يؤمن بها ويدافع عنها حتى النهاية مهما عظُمت الكلفة”.
أقرأ أيضاً: