الأجمل في العالم.. متحف معرة النعمان خزان اللوحات الفسيفسائية التي تحكي تاريخاً وأسطورة..
تشرين- سناء هاشم:
يحتل متحف معرّة النعمان مكاناً متقدماً بين متاحف العالم المتخصصة بالفسيفساء، نظراً للتنوع الكبير في مضامين اللوحات التي تستضيفها ردهاته وصالاته.
ويعد متحف معرة النعمان في حدّ ذاته تحفة فنية، إذ إنه يشغل خان مراد باشا الذي يعد أحد أهم خانات الطرق في سورية، نظراً لما يتمتع من ريادة معمارية في أقسامه.
متحف بواجهات الحصون
يقول الآثاري أحمد الغريب مدير متحف معرة النعمان سابقاً: يتربع مبنى الخان على مساحة 7 دنومات، ويتألف من واجهة خارجية مصمتة بطول 70 متراً وارتفاع عشرة أمتار، وهي أشبه بواجهات الحصون، ويُفضي مدخله إلى بهو واسع يطل على فناء مكشوف توزعت على جهاته أربع صالات للمبيت، تتقدمها أروقة بأقواس مدببة، ويتوسط الفناء المكشوف مبنى المسجد ومن خلفه التكية، وفي جهته الغربية تتمركز منشآت اقتصادية تتبع للخان منها حمام التكية والسوق والفرن ومستودعات للغلال.
وقد تم ترميم الخان وعرضت فيه لوحات الفسيفساء المكتشفة في منطقة المعرة التي شهدت الكشف عن العديد من اللوحات الفسيفسائية في المنطقة نظراً لقربها من أفاميا.
متحف الفسيفساء
يختزن متحف معرة النعمان تحف فسيفسائية فريدة شكلت مقاماً رفيعاً بين متاحف العالم، من حيث تشكيل اللوحات وتنوع موضوعاتها.. ويؤكد الباحث غريب أن المتحف ينفرد بلوحات فسيفسائية تعد الأروع التي تناولت الميثولوجيا ذات الموضوع الأسطوري ومنها لوحة (ولادة هيراكليس/ هرقل) ومشهد آخر يسرد قصة بناء مدينة روما الأسطوري.
ويضيف غريب: بقية اللوحات المعروضة والمخزنة في مستودعات المتحف بأنها تعود بمجملها للعهد المسيحي المبكر الذي نشأت خلاله نواة القرى الأثرية في سورية الشمالية، حيث تقع مدينة المعرّة في جوار هذه القرى، بل وتضم عدداً كبيراً من هذه القرى والتي شهدت تجمعات بشرية في سفوح جبل الزاوية.
فسيفساء هيراكليس
تعدّ هذه اللوحة -هيراكليس- الأرضية التي تم اكتشافها في مدينة حمص (حي الأربعين)، من أهم الكنوز الأثرية التي يضمها متحف المعرة، ومن أجمل لوحات الفسيفساء التي اكتشفت في سورية، لما تمتلكه من موضوع أسطوري يتناول (إله القوة عند الإغريق)، وجمال في هيئات الأشخاص وغنى توثيقياً فضلاً عن المقدرة البارعة للفنان السوري، من خلال الانسجام والتناغم الذي كرسه في توزيع الأشخاص.
ويشرح الباحث الغريب عناصر هذه اللوحة الأرضية التي يعود تاريخها إلى نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث الميلادي، وتتألف من عدة مشاهد ميثولوجية مستقاة من التراث الهلينستي، يمثل مشهدها الأول ولادة هيراكليس من والدته (الكمين) التي تهيأ لها زيوس (رب الأرباب) بهيئة زوجها أمفرتيون وأغواها فحملت بتوءمين (هيراكليس من زيوس)، و(إيفكليس من أمفتريون)، فقامت هيرا زوجة زيوس بوضع الأفاعي في المهد لقتل هيراكليس والتخلص من نسل زيوس من غيرها، كي تحتفظ بالآلوهية لأولادها، إلّا أن الصفات الآلهية التي ورثها هيراكليس عن والده جعلته يمسك الآفاعي ويخنقها.
البعد الثالث
وأشار الغريب إلى أن ما يميز هذا المشهد من اللوحة هو صغر حجم كعوبه ومهارة الفنان السوري بخلق البعد الثالث الذي يشعرك أمام صورة واقعية وملحمة درامية، جسدت في نظرات الأشخاص وتعابير الحزن التي مسحت وجوههم .. ويبدو زيوس في المشهد الثاني متقدماً إلى الكمين بهيئة زوجها (إمفتريون) يرافقه كيوبيد (إله الحب) ويلاحظ من خلف الكمين (اكنويا) وهي الجهالة، أي أن الكمين تجهل بأن زيوس متخفياً بهيئة زوجها، أما في المشهد الثالث فيلاحظ هيراكليس وهو بهيئة رجل ملتح متقدم إلى الآله ليباركه ومن ورائه (اثاناسيا) رمز الخلود
ووفقاً للخبير الأثاري، يقوم هيراكليس في المشهد الرابع بتخليص أوقيانوس (إله المحيطات) الذي بدا وكأنه رجل عجوز يستند إلى جزع شجرة، وقد رمى سهمه ونفذ في الأفعى، وتسيل الدماء منها كما برز لوقيانوس في رأسه قرنان رمز للقوة والخصب.
قصة بناء روما
تنفرد هذه الفسيفسائية – قصة بناء روما- التي يحتضنها متحف معرة النعمان بمشهدها الذي اختاره صاحب القاعة ألا وهو رمز مدينة روما التاريخي الأسطوري، في الذئبة التي ترضع الطفلين روموس ورومولوس، وفي الجانبين وعلان وحملان وطائر كبير، وسبعٌ يفترس غزالاً.. كما تؤطر اللوحة زنبقة متكررة ومفروكة معكوفة الأضلاع بشكل أفقي، أضفت عليها الجمال والإبداع والروعة فضلاً على توثيق اللوحة بنص جاء فيه “يخصّ هذا البيت فيرمينوس، الذي رتبه جيداً، وأقام صلاة مع يوحنا المؤمن على روح أنتونيموس التقي، وكان أرشمندريتا، وكان يطلب الشفاعة من الله للمرضى ودفعَ تكاليف هذا البيت من أمواله، أما الأعمال الأخرى فقد أجادَ بها بولس”.
ويقول الباحث الغريب بأن الموضوع الأسطوري يتجسد في أن “اينياس كان يحكم الشعب اللاتيني، نسبةً لسهل لاتيوم، واختفى اينياس اثناء عاصفة هوجاء، فأصبح يعبد لدى الأجيال اللاحقة باسم جوبتير القومي”.. ويشرح الغريب مضامين اللوحة التي تجسد تاريخ بناء روما: نرى فيها تعاقب عدة ملوك، ومنهم “نوميتور” الذي رزق ابنا وابنة، بيد أن اميليوس شقيق نوميتور الأصغر، استطاع أن يعزل أخاه الأكبر وينتزع منه الملك واتقاءً للعاقبة قتل ابن اخيه ونذره للآلهة ” فيستا” ما يجبرها على أن تظل عذراء لمدة ثلاثين عاماً، فلا تخلف له نسلاً ينتقم منهُ على فعلتهُ، ولكنّ إله الحرب “مارس” أغرم بالفتاة واتصل بها سراً فحملت منه توءمين ذكرين هما (روموس ورمولوس) فثارت ثائرته وصب جام غضبه على الطفلين وأمر بإلقائهما بنهر التيبر، لتتدخل الآلهة وتقذف مياه التيبر بالطفلين فرسا مهدهما تحت شجرة تين على سفح هضبة البالاتيوم، حيث أتت إليهما ذئبة من الجبال كانت قد أضاعت جرائها فحنت عليهما وأرضعتهما من ثدييها، وحينها عثر عليهما راعي قطعان الملك Faustulus.. ويضيف الباحث الآثاري: كما تفصح اللوحة أن الراعي Faustulus، أخذ التوءمين إلى زوجته التي تعهدت بتربيتهما، وعندما كبرا وبعد استشارة الآلهة وقع الاختيار على رومولوس ليقوم بوضع أسس المدينة، فأخد محراثاً وراح يشق أخدوداً حول تل البالاتيوم مخططاً بذلك سور المدينة وأمر رومولوس اتباعه من اللاتينين واللبيين أن يشرعوا فوراً ببناء السور، ولذلك فقد استشاط روموس غضباً لأن اختيار الآلهة لم يقع عليه فقفز إلى السور متحدياً رومولوس، فقام الأخير بقتل أخيه روموس عام
/ 753 ق.م / ومن ثم قام رومولوس ببناء المدينة في أراضي التلال السبعة التي منحها لهما جدهما (نوميتور) لكونها مهدهما هو وأخوه، ومن ثم قُتل رومولوس ومُجِّدَ وعُبِّدَ بعد موته وسمي (كريرينوس/ إله الحرب).. ويؤكد الباحث الآثاري أن هذا النقش ظهر أيضاً على قطعة نقدية تعود إلى القرن الخامس والرابع قبل الميلاد معروضة إحداهما في متحف اللوفر في باريس.
فسيفسائيات المسيحية المبكرة
ويشير الباحث الغريب إلى أن المتحف يحوي أيضاً لوحات فسيفساء تعود إلى العهد المسيحي المبكر، مشيراً إلى أنها تتميز بتنوع في مضامينها.. وبيّن الغريب بأن هذه الفسيفسائيات كانت على أرضيات كنائس في القرى الأثرية المجاورة لمدينة المعرّة، وقد تم نقلها إلى المتحف في حقب مختلفة.
وحول مضامين هذه اللوحات، كشف الباحث الغريب أن الفنان المسيحي تناول فيها عدة موضوعات، لعلَّ أهمها الحياة اليومية والرعوية، ومشاهد الجنة، ورموز أخرى من حيوانات من البيئة وزخارف هندسية ونباتية، لها دلالات رمزية، ويُعتقد بأن هذه الرموز تدل على الإيمان، فمن لوحة أم حارتين إلى اللهوات وتل عار ومعرشورين وغيرها، وأصبح متحف المعرّة بما يعرض من لوحات مخزناً للتاريخ الحضاري، وحقيقة يشكل هذا المتحف الهوية الجمعية للإنسان السوري، والذاكرة المضيئة لتراثنا الفني.