«ملف تشرين».. أميركا أم الأوروبيون.. أيهما يدفع الـ«ناتو» باتجاه الانهيار؟.. فرنسا تاريخياً مثال حيٌّ لجرأة الانسحاب لكنه لن يتكرر.. أوروبا مجبرة على متابعة الطريق حتى نهايته

تشرين- هبا علي أحمد:
حال أوروبا اليوم والحلف الأطلسي «ناتو» في الواقع، ليس بأفضل مما يجري في عموم الساحة الدولية خصوصاً لناحية حرب أوكرانيا والعدوان الإسرائيلي على غزة، إذ شكلت هاتان الجبهتان انعكاساً مباشراً وواضحاً على الغرب الأطلسي وحلفه، وعلى نحو خاص من خلال الانخراط الأمريكي في الجبهتين، صحيح أن الدول الأوروبية و«ناتو» انخرطا بدورهما في الصراع، إلّا أنّ الانخراط الأمريكي أخذ مسارات مختلفة، بمعنى؛ إن الانخراط الأوروبي كان بصفة التابع للأمريكي، بينما الأخير قاد الصراع بشكل أو بآخر، ليَنْفُذَ من خلاله إلى صيغ وتحالفات جديدة /سياسية – اقتصادية- عسكرية/ بشراكة آسيوية وإقليمية، لتكبير زوايا الصراع والمواجهة، وصولاً إلى الصين وتطويقها، وعند هذه النقطة من الطبيعي أن تختلف الأولويات الأمريكية، لتغدو أوروبا في آخرها.
الخلفية السابقة ضرورية لفهم انعكاس كل ما سبق على مستقبل «ناتو» والشكوك المُثارة حول جدوى استمراره، فالولايات المتحدة هي عصب الحلف الأساس، ومن البدهي أن تبدّل الأولويات الأمريكية يرسم الكثير من علامات الاستفهام حول مستقبل الحلف وأوروبا معاً، خصوصاً مع قرب الانتخابات الأمريكية والمخاوف من عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، باعتباره المنتقد الأكبر للحلف، يُضاف إلى ذلك، كثرة التقارير التي تحدثت عن تفكك الحلف أو انهياره تدريجياً بفترة زمنية من 5 إلى 10 سنوات، ومنها من رجح الانهيار بحلول 2025 على خلفية الحرب الأوكرانية والتقارب المرجح بين الولايات المتحدة وروسيا بعد الانتخابات الأمريكية المقبلة.

أمريكا عصب «ناتو» الأساس وتَبدُل أولوياتها يَرسم الكثير من علامات الاستفهام حول مستقبل الحلف ولاسيما مع المخاوف من عودة ترامب

يُضاف إلى ذلك أيضاً، الأصوات الأوروبية الداخلية التي تناهض الحلف وتدعو مراراً وتكراراً للانسحاب منه، وأيضاً والأهم من كل ذلك انقسام أعضاء الحلف حول القضايا الدولية وتفاقم الخلافات بين دوله، ناهيك بأن نجاح مهمة حفظ الأمن الجماعي الأطلسي لا يزال محل تشكيك، وكذلك الحال حينما يتعلق الأمر بضمان التنسيق السياسي والاقتصادي الأوروبي.

– الحلف وفرنسا
بالعموم فإن الأسئلة المُثارة حول الحلف ليست جديدة، بل يُمكن اعتبار عهد ترامب 2016-2020 نقطة الانطلاق، وما شاب تلك الفترة من تقلبات وتحديات واجهها الحلف نظراً لابتزاز ترامب للدول الأعضاء في مسألة المساهمة المالية مهدداً بالخروج من الحلف، ما أدى إلى قلق أوروبي حيال عدم اليقين حول مستقبل القيادة السياسية الأمريكية، وهو ما كان واضحاً في قمة الحلف الـ75 تموز الماضي.
وبعد ترامب كرت السبحة ووصلت إلى فرنسا مع دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى استقلال أوروبا إستراتيجياً على صعيد الأمن والدفاع، لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، واعتبار الحلف «ميتاً سريرياً» ما زاد من التساؤلات حول مستقبله، فالحديث عن التفكك السريع ليس وارداً، لكن كثرة التحذيرات والدعوات الفرنسية للانسحاب من الحلف والتي كان آخرها زعيم حزب الوطنيين الفرنسيين، فلوريان فيليبو، الذي دعا بلاده لمغادرة الحلف بعد الكشف عن معلومات حول تورط أوكرانيا في تفجير خط أنابيب الغاز «نورد ستريم»، مضيفاً: هذه ضربة لحلف شمال الأطلسي، من الواضح أنها بالاشتراك مع الولايات المتحدة، فلنترك الـ«ناتو»!.. داعياً إلى صحوة أوروبية بعد تصريحات لقادة الناتو تسرّع العجلة نحو حرب عالمية ثالثة.. ماذا يعني كلَّ ذلك؟
لا تعني كلَّ تلك التصريحات أنّ فرنسا ستنسحب بين ليلة وضحاها، كما لا يعني أنه بمجرد الانسحاب الفرنسي ينهار الحلف، فمسألة الانهيار تراكمية، بمعنى؛ أنها بحاجة لسنوات وعوامل مجتمعة ومتفاقمة تدفع للتفكك والانهيار النهائي تماماً كما اجتمعت العوامل وأدت إلى انهيار حلف «وارسو»، مع تردِّي الأوضاع الاقتصادية أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وتصاعد التطلعات الوطنية لدول أوروبا الشرقية، وانبثاق حركات مناهضة «للسوفييت ومعادية للشيوعية».. وبالمقارنة، نجد أن أوروبا حالياً تعيش العواملَ ذاتها، أوضاعاً اقتصادية متردية، ورغبة بالاستقلال عن الولايات المتحدة إستراتيجياً، والتي إذا ما تمّت فعلاً فسيكون الحلف أولى الضحايا.

مسألة انهيار «ناتو» تراكمية بحاجة لسنوات وعوامل مجتمعة تدفع للتفكك النهائي تماماً كما اجتمعت العوامل وأدت إلى انهيار حلف «وارسو»

أيضاً وبالعودة إلى فرنسا، فانسحابها لا يعني أن الحلف انتهى، لكن الانسحاب سيدفع بالكثير من الدول لتحذو حذوها، وحتى لو لم تكن باريس البادئة، حتماً ستكون إحدى الدول هي البادئة في ظل الانقسامات والخلافات بين الأعضاء وعلى نحو خاص على خلفية الحرب الأوكرانية.

– لماذا فرنسا؟
تُؤخذ فرنسا بالحسبان انطلاقاً من خلفية تاريخية وتجربتها مع الانسحاب من «ناتو» أيام شارل ديغول، الذي كان متشككاً، كما كثير من الرؤساء الفرنسيين، في جدوى الحلف ونسبة الوثوق في القيادة الأمريكية، وفي الضمانات المقدمة لإنقاذ أوروبا، ومع ديغول اتجهت فرنسا لاتخاذ خطوات ضد الحلف، ففي البداية، طالب ديغول عام 1958 بمنح فرنسا مزيداً من الاستقلالية والحرية مقارنةً ببقية حلفائها، خاصة في مجال التسلح النووي، وصلاحيات شبيهة بصلاحيات بريطانيا وأميركا فيما يخص إصلاحات صلب «ناتو».
وخلال عام 1959، انسحبت البحرية الفرنسية المتمركزة بالبحر الأبيض المتوسط من قيادة الناتو، وبعدها بشهرين أعلن ديغول أنه سيعارض تخزين الأسلحة النووية الأميركية على الأراضي الفرنسية.
وفي عام 1966 بعد إعادة انتخابه رئيساً لفرنساً، أطلع ديغول نظيره الأميركي ليندون جونسون على رغبة بلاده في مغادرة القيادة الموحدة لحلف شمال الأطلسي وإنهاء تبعية القوات الفرنسية للأوامر الدولية، لكن من دون الرحيل بشكل تام عن الحلف، وأكد رغبة بلاده في استعادة السيادة على أراضيها مطالباً بضرورة رحيل القوات الأميركية والكندية عن الأراضي الفرنسية.
وكان هذا القرار نتيجة سعي ديغول لإعادة تأسيس هوية فرنسا كقوة مستقلة وسيادية، بعد خسارتها مستعمراتها في الحرب العالمية الثانية وحروب «التحرير» وبقيت فرنسا خارج الحلف حتى عام 2009 في فترة حكم الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، بعد غياب استمر لنحو 43 عاماً، ولكن منذ أيام ديغول ظلت فرنسا تعمل في النطاق الدفاعي بشكلٍ مواز لتحركات الحلف، كما صنعت لنفسها إستراتيجية نووية شبه مستقلة.

– البداية من الداخل
لمن يُجادل في مسألة الانهيار من عدمه، ومع عدم ترجيح الانهيار السريع إنما هو انهيار تكتيكي/تراكمي، فلا بدّ من التذكير أن الكثير من الجدال أثير حول الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وفي النهاية خرجت، وكانت من أولى الحلقات التي نبّهت إلى إمكانية تفكك الحلف، فلماذا يمكن أن يكون «ناتو» استثناءً؟

من العوامل التي تدفع إلى الانهيار انقسام أعضاء الحلف حول القضايا الدولية والتشكيك في نجاح مهمة حفظ الأمن الجماعي الأطلسي

الناتو شأنه شأن كل الأحلاف والعلاقات وحتى الدول تاريخياً تمر بفترة تطور وازدهار ومن ثم تنحدر وتصل إلى الموت نتيجة عوامل مجتمعة كما أسلفنا، ولاسيما إن كانت العوامل داخلية يُضاف إليها لاحقاً الخارجية، وهنا نعود إلى مسألة ترامب وتهديداته والانقسام بين الأعضاء حيال الكثير من القضايا، والتوجه الأمريكي لصنع حلف أوسع وأكبر لمواجهة روسيا والصين وإيران والدول الحليفة، أي إن أمريكا تهدم «ناتو» التقليدي لصالح «ناتو» متعدد الجنسيات وعابر للقارات إن أمكن القول، هذا فيما كُتب النجاح لها، فالأمور ضبابية وحرب أوكرانيا وجبهة غزة لم تضعا أوزارهما بعد، وبالتالي الخريطة السياسية والعسكرية الدولية لم تنضج بعد.
في داخل «ناتو» تدافع بعض الدول الأوروبية عن الحلف مؤكدة على أهميته بالنسبة للأمن الجماعي، في حين يشجع آخرون البحث في سبل سياسة دفاعية أوروبية أكثر استقلالية، وهو ما يثير تساؤلات حول الوحدة فيما يتصل بالقضايا الأمنية، ويظهر عدم وجود وجهة نظر واحدة.. لنأخذ مثلاً الصراع بين تركيا واليونان، بشأن قبرص، والذي سيؤدي إلى انهيار الأطلسي ودفنه، حسب الخبراء، إذا قاد إلى حرب بين عضوي الحلف، ستؤدي حتماً إلى انقسام الدعم الأطلسي بين أنقرة وأثينا، عندها يكون قد حان الوقت لكي يحزم «ناتو» أغراضه، مشيرين إلى أنّ الحلف لا يمكنه المشاركة في حرب بين أعضائه وسيسعى جاهداً لضمان حلِّ جميع الخلافات دبلوماسياً وليس عسكرياً.
حتى الحرب الأوكرانية، ليست محل إجماع، ففيما يدعم البعض كييف، يدعم آخرون الحوار مع روسيا وعدم الانجرار إلى حرب معها، والأكثر من ذلك يُهدد ترامب في حال عودته للبيت الأبيض على تشجيع روسيا ودعمها في عمليتها، مع مواصلة انتقاداته لدول الحلف التي لا تلتزم بدفع ما عليها من استحقاقات مالية.

من دون الدرع الواقي الذي توفره أمريكا لـ«ناتو» فإن أيَّ وسيلة ردع أخرى لن تحظى إلّا بقدر ضئيل من المصداقية

وحسب تقارير غربية، فإن عودة ترامب أدخلت بعض دول «ناتو» مثل ألمانيا في دوامة من الحيرة واستكشاف عدد من الخيارات، ومنها مظلة نووية أوروبية بديلة، وهو موضوع كان من المحرمات منذ الحرب العالمية الثانية، في وقت يبدو فيه أنّ روسيا تعمل على «نشر سلاح نووي في الفضاء» ما يعني القدرة على تميز الاتصالات والمراقبة المدنية والعسكرية، وفق ما ذكرته صحيفة «نيويورك تايمز».
القلق الألماني من تهديدات ترامب، دفع برلين لزيادة إنفاقها الدفاعي والوصول بالتالي إلى عتبة 2% من الناتج الإجمالي الخام وذلك لأول مرة منذ عام 1992، وهذه النسبة تعادل حوالى 73 مليون دولار أمريكي.
وكانت صحيفة «هاندلسبلات» الاقتصادية الألمانية (في شباط الماضي) علّقت بشأن قدرات الجيش الألماني، معتبرة أنه سيحتاج إلى مزيد من وقت قبل أن يتمكن من تحقيق أهدافه، مشيرة إلى أنه من دون الدرع الواقي الذي توفره أمريكا، فإن أي وسيلة ردع أخرى لن تحظى إلّا بقدر ضئيل من المصداقية. ومن دون دعم الرئيس الأمريكي المستقبلي، أياً تكن هويته، فمن غير المرجح أن يأخذ فلاديمير بوتين المستشار أولاف شولتس في الحسبان.
بالعموم، أكبر التحديات وأخطرها التي تتربص بالحلف هو من داخله ومن الولايات المتحدة تحديداً، وأيّما تكن التحديات الخارجية خطرة ومفصلية في طبيعة الأحلاف، فلن يكون تأثيرها كما تأثير الداخل، بمعنى؛ إن الحرب الأوكرانية والعدوان على غزة وتداعياتهما سيتركان بلا شك أثرهما على الحلف لكون الصراع دولياً بأحد وجوهه، لكن التوجهات الأمريكية المقبلة ستكون الحدث المفصلي الذي سيتحدد على أثره استمرار «ناتو» أم تفككه وانهياره، وسيتحدد على أثر ذلك إن كان هذا التفكك بطيئاً أم سريعاً.

أقرأ أيضاً:

«ملف تشرين».. «الأطلسي» يواصل مسار الخروج من أطلسيته باتجاه آسيا.. الموارد الاقتصادية هدف مركزي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
بالتعاون مع منظمة الفاو و«wfp».. الزراعة تبدأ مشروعاً متكاملاً للتخلص من زهرة النيل وآثارها السلبية تحذير من خطر إدمان الملايين على مسكنات الألم المزارعون يفقدون ثقتهم بالمبيدات المطروحة في الصيدليات الزراعية.. ومدير زراعة حماة يؤكد وجود مخالفات وإحالة بعضها للقضاء أصولاً موسم سياحي لافت في اللاذقية.. وإقبال من الدول العربية المجاورة من إعلام العدو.. هآرتس»: إهمال نتنياهو لموضوع الأسرى الإسرائيليين هدفه خدمة ‏الهدف الحقيقي لحربه.. احتلال غزة «ملف تشرين».. «ناتو+» من الشرق الأوسط إلى الشرق الآسيوي.. آخر معارك واشنطن تستدعي التضحية بالأوروبيين والإعداد لمراسم دفن لائقة لحلف شمال الأطلسي «ملف تشرين».. أميركا أم الأوروبيون.. أيهما يدفع الـ«ناتو» باتجاه الانهيار؟.. فرنسا تاريخياً مثال حيٌّ لجرأة الانسحاب لكنه لن يتكرر.. أوروبا مجبرة على متابعة الطريق حتى نهايته «ملف تشرين».. «الأطلسي» يواصل مسار الخروج من أطلسيته باتجاه آسيا.. الموارد الاقتصادية هدف مركزي «ملف تشرين».. هل تكون أوكرانيا آخر حروب الـ«ناتو»؟ «ملف تشرين».. الصين تقلب طاولة الـ«ناتو».. أميركا لن تتردد في حلّ الحلف