أهي مشكلة غياب العقل.. أم عقل في وضعية مُلتبسة؟

تشرين- ادريس هاني:
يَفسد العقل كما تفسد أعضاء الجسد، ليس لأنّ العقل عضو مُختصر في الدّماغ، بل من حيث إنّ أنماط التفكير النابعة من شروط ثقافية ونفسية واجتماعية وبيولوجية وتربوية، قد تسبب اعتلالاً وهشاشة وضموراً في العقل الفردي أو الجمعي.
تتضخّم الممارسة القياسية في العقل الفاسد، لأنّها عملية غير مكلفة، ولأنّ الوسط المعني بقياس الكبرى على الصغرى يكفي فيه الظّن العام وبنات الخيال. وحتى الخيال، ومن فرط فساد العقل، يضمر ويصبح خيالاً بليداً، يسهم في إعادة إنتاج الضّحالة المعرفية، بل سيسند العقل لحظة اعتلاله إلى إخطاء التعليل، فيضع أمام العقل من مخزون الواهمة ما يوحي بشمولية التشابه. إنّ أدواء العقل كثيرة، جوهرها مرض القياس. فانظر تجد أنّ أحوال الناس في الاستدلال قياسية محضة، ظاهرها تصفيف المقدمات، لكن من دون رابط بُرهاني. إنّ القياس هو حمار الجهل، هو رجز المتحلّلين من مسؤولية البرهان.
اخترق القياس كلّ نشاط البشر، نخباً وعواماً، بل حتى من يختفون خلف الصناعة المنطقية هم في «الهمّ شرق». ألا ترى كيف جعلوا من البرهان لعبة تبسيط الظاهرات، كيف آثروا عزل الظاهرات عن مكوناتها بوصفها ظواهر تركيبية؟.. ولكونها موصولة فإنّ قيمتها في استيعاب وظيفة الوصل لا الفصل. ألا ترى أنّهم يفترضون من دون أن يكون قد أسعفهم الحدس، حيث لا أحد من المُناطقة منذ أرسطو حتى آخر حُصرم منطقاني، ألا وهي مشروعية الافتراض من دون حدس، سوى جريٍ على مناويل ما تقادم من آراء لا يجدون عنها محيصاً؟
تقوم حياة البشر الرخوة على الأقيسة من دون بذل الوسع في تحقيق الحجّة. أي بتعبير آخر من دون اجتهاد – وهنا وجب الاجتهاد- في التمييز بين ما يبدو نظائر عند المقارنة. إنّ العقل منذ «إخوان الصفا» هو ما تحقق به التمييز، وقد يفيدنا ذلك في إدراك الفرق بين ما يتحقق به التمييز وما يتحقق به التشابه، فهذه الأخيرة لا تحتاج إلى نظر عقلي، فالظواهر أشباه، والعاقل من أدرك ما به الامتياز وما به الاشتراك.
في تشريح الخطاب اليومي كالخطاب التّعلُّمي، هناك مهزلة عقل بشروط تدانت في الاعتبار، حتى بات العقل زائدة دودية. ولولا بقايا حدس تدبر به البشرية بعضاً من شؤونها، لساخت الأرض بأهلها وعانقت الخاووس. إنّ العقل لا يعمل بمنأى عن الحدس، ولا يتجدد من دون حدس، ولا يتقدّم الحدس، ولا يستقيل عنه.
قضمت حداثة العبيد مكانة ما دون العقل، فظنت أنّ العقل يستقيل خارج سائر الملكات بالحكم. وهذ النوع من الاستقالة سبقتهم إليه المعتزلة والمدرسة العدلية، وهم إذ يعيدون ربط العقل ببقية الملكات، يكونون قد باعدوا بينها في المسافات. إنّ الحس المشترك يخضع من خلال هذا التمرين إلى خداع كبير، يفرض عليه تبسيط الفعل العقلي، باعتباره استيعاباً واحتواءً لمصادر العلم الحسّية. حتى اليوم لم يأخذ الحدس مكانته التي بها يتميّز الإنسان، حيث بها يدرك التركيب.
يحتاج العلم إلى حسن النية التي به تنهض المقاربة المتفردة للظاهرات بعيداً عن تشويش النّظائر التي تحكم به مسبقاً غريزة القياس. فالقياس يقوم على سوء النية وسوء الظّن بتفرد الظاهرات. حتى في الحياة الاجتماعية يسوء الاجتماع بالقياس، حيث تفسد النوايا، ويقوم الحكم على القياس والإسقاط. فحين نقيس الآخر على اعورار الذّات، ونقيسه على تجارب جاهزة، نكون قد أكدنا أنّ القياس ليس فقط خطراً على القوانين فحسب، وعلى العلم فحسب، بل على الاجتماع. ينظر الجهل المتعالم إلى الظاهرات كقطيع لا مائز بين أفراده، كما ينظر الجهل الاجتماعي إلى البشر كقطيع لا مائز بين أفراده، فوجب تعميم الأحكام وركوب الظّن العام.
لحظة الاكتشاف العلمي هي مدينة للتحرر من القياس، هي اختلاس لحظة يتيه فيها العقل في مسارب الاحتمال، كالسيارة إذ تنطلق بسرعة تريح المحرك ولا تخنقه بالأقيسة المُغالطة. يستكين البشر للقياس، لأنه مريح غير مكلف في التفكير، وهو فعل عدواني في الحياة الاجتماعية، لأنّه يقع في سياق المقارنة، ولأنّه بخلاف الموقف الرّواقي من أنّ للذّات وضعيتها الخاصّة وتفرّدها في التجربة.
يَصعُب التخلّي عن عوائد التعقّل الخادع، فالنفس في مداركها السُّفلى تستكين لغير ذات العناء، وتكتفي بالظنون في العلم كما تحيا بها في الاجتماع. لعلّ سبر عدم استقرار البشرية على الكوكب نابع من آفة القياس، المفسد للعالم، للإنسانية، للأديان، لأنّ البشرية على تنوعها، هي موحّدة في طريقة إدارة المعنى بالقياس.

إن كان لا بدّ من الحديث عن العقلانية اليوم، فهي تنوير تلك الفتوق العميقة التي استكان إليها العقل في ممارسة لا تحقق انفراجاً، لا في العلم ولا في المجتمع. البشرية مرتهنة للتكرار وإعادة إنتاج أزماتها بصورة تبدو عقلانية، إنّها تعقل، ولا ترى أنّها في ذروة العقل هي لا تعقل كما يجب أن يكون فعل العقل باعتباره حسن التمييز، تُراهن على التكرار، تزحف في جهل مُقنَّع، قليل من خدعة الابتكار، وكثير من خيبات الأمل. هذا الذي يهيمن على البشرية هو النخاع الشوكي في وضعية انتحال شخصية العقل. لهذا لن تتعجّب حين يَصعُب اختراق المعنى والعقل وتتساوى الأدلة ويغيب التمييز وينقلب سافلها عاليها.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار