«ملف تشرين».. هل تكون أوكرانيا آخر حروب الـ«ناتو»؟

تشرين- عماد الحطبة:
منذ إنشائه عام ١٩٤٩، كان حلف شمال الأطلسي «ناتو» الذراع العسكرية التي استخدمتها الدول الرأسمالية لفرض هيمنتها على العالم، رغم أن هذا الحلف لم يَخُض أي حرب قبل تفكك الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية، إلا أن إرثه الاستعماري ووجود ثلاث من دوله ضمن النادي النووي كانا كفيلين بإعطائه القوة للهيمنة على معظم دول العالم، وباستثناء مساهمة بعض من دول «ناتو» في الحرب الكورية «١٩٥٠ – ١٩٥٣» اقتصرت حروب الحلف على العمليات الاستخبارية والمؤامرات وتدبير الانقلابات، كما فعلت ضد الرئيس الليندي في كولومبيا والرئيس سكارنو في إندونيسيا.
كان من المتوقع تراجع أهمية حلف «ناتو» بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهو ما دعمه التعهد الـذي قدمته الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا لآخر الرؤساء السوفييت ميخائيل غورباتشوف بعدم التقدم «إنشاً واحداً» نحو الشرق مقابل موافقته على استعادة وحدة ألمانيا، لكن الـ«ناتو» لم يلتزم بتعهده وسرعان ما سعى إلى ضم دول جديدة إلى عضويته، كانت جميعاً من دول المعسكر الشرقي السابق مثل المجر وبولندا ورومانيا، وبعض دول الاتحاد السوفييتي مثل أستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وفي غياب العدو الرئيس لم يكن أمام الرأسمالية سوى الامتثال لفكرة أحد أشهر منظري المحافظين الجدد، ليو شتراوس: «إذا لم نجد أعداء فعلينا اختراع أعداء ليبقى شباب الرأسمالية جاهزين».
كانت الحرب الحقيقية الأولى للحلف عندما تدخل في البوسنة والهرسك عام ١٩٩٢، ليليها التدخل في كوسوفو ١٩٩٨، ثم الحرب على الإرهاب التي تمثلت في غزو أفغانستان، ثم احتلال العراق ٢٠٠٣.
في عام ٢٠٠٩ قام الحلف بعمليات في خليج عدن بحجة مكافحة القرصنة، ثم أطلقت الرأسمالية ربيعها المشؤوم عام ٢٠١١ ليتدخل الحلف في ليبيا وسورية، وخاض الحلف كل حروبه ضد دول أقل منه قوة، وعلّق على صدر ضباطه أوسمة تتبع لانتصارات وهمية، كان ضحاياها ملايين الأبرياء من المدنيين، وتدمير البنى التحتية للدول المستهدفة.
لم تُقنع تلك الانتصارات الوهمية أحداً، بمن في ذلك زعماء دول «ناتو» نفسه، ففي العملية على ليبيا شاركت ثماني دول فقط من أصل ٢٨ دولة عضواً في الحلف، وانسحبت بعض الدول من عملياته في العراق، وبلغ الأمر بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى اعتبار الحلف ميتاً سريرياً.
وجاء ت العملية الروسية في أوكرانيا لتحيي آمال النظام الرأسمالي بعودة حلف «ناتو» إلى الحياة، وضجت أروقة وقاعات الحلف بالاجتماعات والقرارات التي تهدد روسيا بالويل والثبور، وتخصص مليارات الدولارات كدعم مباشر أو على شكل أسلحة ومعدات لحسم المعركة، حتى أصبحت خزائن المال، ومخازن الأسلحة شبه خاوية، ورغم كل هذا الدعم لم يتحقق النصر الموعود، بل إن شبح الهزيمة يلوح في الأفق.
لم تجرؤ أي من دول الحلف على إدخال جندي واحد إلى أوكرانيا بشكل علني، بل إن معظم هذه الدول لا تترك فرصة للتأكيد على عدم نيتها المشاركة، إلا أطلقت فيها تصريحات تطمئن فيها جميع الأطراف، حيث يواجه حلف «ناتو» في أوكرانيا حرباً حقيقية، وهو غير معتاد على هذا النوع من الحروب، وكل حروبه كانت ضد جيوش أضعف من جيشه بمئات المرات، وخبرته الأساسية هي قتل المدنيين وتدمير المدن والقرى وليس مواجهة الجيوش.
قوة الرأسمالية الأساسية تكمن في الاقتصاد، وما الجيوش والتحالفات إلا أدوات لفرض السطوة الاقتصادية ونهب ثروات الشعوب، وفي ظل الأزمات الاقتصادية المتتالية التي يعاني منها النظام الرأسمالي، ستكون أي حرب جديدة بمنزلة كارثة، خاصة أن الصين تقف متربصة بانتظار ارتكاب حماقة مثل توسيع الحرب على أوكرانيا، لتعلن هيمنتها على التجارة العالمية، بشروط جديدة قائمة على التعاون والمنفعة المتبادلين، وهو ما يناقض جوهر النظام الرأسمالي القائم على النهب والاستغلال.
الرأسمالية مفلسة اقتصادياً، وتتعرض إلى ضربات متتالية عسكرياً وسياسياً في معظم أنحاء العالم من غزة إلى فنزويلا، ومن إفريقيا إلى كولومبيا.
أوكرانيا تتهاوى عسكرياً رغم كل المساعدات المقدمة من حلف «ناتو»، ولعل سؤال ماذا بعد؟ يدور في ذهن معظم قادة دول الحلف، فلم يعد هناك أعداء جدد لاختراع حروب معهم، لقد حاربنا كل من يمكن محاربته ولم نحقق نصراً مؤزراً على أحد، خصومنا يتقدمون علينا في كل المجالات، حتى الدول الحليفة بدأت تتهرب من التزاماتها معنا.
وبغضّ النظر عن نتائج كل الحروب، فإن حرب أوكرانيا قد تكون آخر حروب الحلف الأطلسي، ولم يعد بإمكان دول أوروبا دفع ثمن المزيد من الطيش السياسي الأميركي، واليابان تنأى بنفسها إلى حد كبير عن سياسات الناتو لكن بصمت وهدوء، والمثلث الرأسمالي يتفكك، ومعه يتفكك حلف «ناتو» كقوة عسكرية غاشمة، فنحن على أبواب عصر الشعوب الساعية إلى استقلالها وتحقيق مصالحها، عصر الساعات الأخيرة لهذه القوة التي ملأت العالم قتلاً ومجازر، ولعلنا نحيا لنشهد شعوب العالم تخصص يوماً للاحتفال بزوال الـ«ناتو» من تاريخ البشرية.

أقرأ أيضاً:

«ملف تشرين».. الصين تقلب طاولة الـ«ناتو».. أميركا لن تتردد في حلّ الحلف

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
بالتعاون مع منظمة الفاو و«wfp».. الزراعة تبدأ مشروعاً متكاملاً للتخلص من زهرة النيل وآثارها السلبية تحذير من خطر إدمان الملايين على مسكنات الألم المزارعون يفقدون ثقتهم بالمبيدات المطروحة في الصيدليات الزراعية.. ومدير زراعة حماة يؤكد وجود مخالفات وإحالة بعضها للقضاء أصولاً موسم سياحي لافت في اللاذقية.. وإقبال من الدول العربية المجاورة من إعلام العدو.. هآرتس»: إهمال نتنياهو لموضوع الأسرى الإسرائيليين هدفه خدمة ‏الهدف الحقيقي لحربه.. احتلال غزة «ملف تشرين».. «ناتو+» من الشرق الأوسط إلى الشرق الآسيوي.. آخر معارك واشنطن تستدعي التضحية بالأوروبيين والإعداد لمراسم دفن لائقة لحلف شمال الأطلسي «ملف تشرين».. أميركا أم الأوروبيون.. أيهما يدفع الـ«ناتو» باتجاه الانهيار؟.. فرنسا تاريخياً مثال حيٌّ لجرأة الانسحاب لكنه لن يتكرر.. أوروبا مجبرة على متابعة الطريق حتى نهايته «ملف تشرين».. «الأطلسي» يواصل مسار الخروج من أطلسيته باتجاه آسيا.. الموارد الاقتصادية هدف مركزي «ملف تشرين».. هل تكون أوكرانيا آخر حروب الـ«ناتو»؟ «ملف تشرين».. الصين تقلب طاولة الـ«ناتو».. أميركا لن تتردد في حلّ الحلف