مجرم حرب يسخر من الضمير العالمي
تشرين- ادريس هاني:
ذكّرني صديقي باولو كابوزو قبل أيام قليلة بتلك القصة الموحية، وهي من أجمل الأقاصيص الكلاسيكية حول فانتازيا الكذب، أي ما يتجاوز حقّاً الكذب كمفهوم، كاستراتيجيا الكذب الخالدة، وذلك حينما ارتدى الكذب ملابس الحقيقية ولاذ بالفرار وترك الحقيقة عارية، سأعود إلى مناسبة هذا الكلام، الذي تجسّد في خطاب النّتن داخل الكونغرس.
إنّ الحكاية إياها تتجاوز كلاً من تاريخ الكذب وأركيولوجياه، ومفهومه وبنيته، بل تضعنا أمام حقيقة أخرى جديرة بأن أثيرها في هذه المناسبة، وبالمختصر المفيد، إنّ الحقيقة لحظة غباء حاملها، هي مسؤولة عن ازدهار فنّ الكذب، فخلف كلّ كذبة تكمن حقيقة في وضعية زائفة، لا يمكن أن يوجد الكذب مجرّداً، بل بيئته هي الحقيقة، وأداته المكر، التمكين للكذب هو الوضعية المزرية للحقيقة، لأنّ الحقيقة من دون النّباهة، هي طريق سيّار نحو الكذب، لو شئنا التمثيل لتلك العلاقة، فهي علاقة الفيروس بالخلية، الكذب عاجز عن إنتاج مادة الكلوروفيل من دون الاستعانة والتطفل على الخلية، فالخلية مسؤولة عن استفحال الفيروس، حين تفقد الرقم السّري لمكر الفيروس الذي لن يتركها، وهي في غالب الأحيان تذهل ذهولاً طبيعياً عن الفيروس، فالحقيقة في حالة ذهول مزمن عن الكذب المتربّص بها، المرتدي لباسها.
الذين تناولوا الكذب تأريخاً ومفهوماً منذ كوهيري وأرندت ودريدا، دار نقاشهم حول البعد الأخلاقي للكذب، وربما فيما ذهب إليه دريدا من أنّ الكذب له تمظهر في الكينونة عند هيدغر.. إنّ اعتبار الكذب هو عدم الإفصاح عن الحقيقة، لا يكفي، لأنّ الحقيقة هنا ليست مشروطة بالقول بل يتحقق الكذب بوجود نية الإضرار.. إنّ سوء النّية هو من يجعل الحقيقة نفسها مُضرّة، وعليه، هنا تكمن إشكالية الحقيقة والكذب، وهنا لا بدّ من التأكيد على فكرة دريدا، حيث نقيض الكذب ليس الحقيقة بل الصِّدق.
سأتوقّف عند هذا الحد، وأركز على حنا أرندت، بخصوص التحوّل الاستراتيجي في تاريخ الكذب، بل إلى تأكيدها أن العالم بلغ ذروة الكذب، لننطلق من هنا في محاولة استيعاب ذروة الكذب في خطاب النّتن الذي يحيلنا إلى قصة الحقيقة والكذب والبئر، لقد ارتدى النتن لباس الحقيقة ولاذ بالفرار، ترك خلفه أشلاء ممزعة، شهوراً من الإبادة والجريمة الموصوفة ضد الإنسانية، وارتدى لباس الحقيقة، إنّه قدّم خطاباً حضاريّاً ضدّ الهمجية، أي ضدّ من خرّبتهم التقنية الحربية كابتزاز للاستسلام، خطاب يتهدد المفاهيم الكبرى لغرب سقطت حكمته التنويرية في البئر ليرتديها الكذب، اليوم الكذب يتلبّس كلّ المفاهيم الكبرى للحضارة والتنوير والسلام، وهناك غرب آخر، غرب المصالح والانتهازية، يقابل مجرم حرب بالتصفيقات الحارة، في هذا اللقاء سخر النتن من كلّ القيم التي نهض عليها التنوير الغربي، في ذروة كذب السياسات، تنكّر للمثقف الغربي، للحراك الطّلابي، جرّم الجنائية الدولية، جرّم كل من تأنّن لمحنة الفلسطينيين، لكلّ من امتعض من الإبادة، جرّم ما تبقّى من الضمير الغربي الذي يتحمّله طلبة الجامعات، تلبّس برداء الضّحية، وهي الأكذوبة الصهيونية التي أسست لشرعية الكيان منذ هرتزل، إنّه بشكل ما يدعو العالم لإسناده في حرب الإبادة على الأطفال.
سعى الخطاب الاستخفافي بما تبقى من قيم عالمية إلى تقويض فكرة الحق في التّحرر الوطني.. إنّ الاحتلال يتحدّث عن السلام وعن الدفاع عن النّفس، هي واحدة من أكبر المهازل في تاريخ السياسة الدّولية، المُصالحة مع الفاشيست، من سيصدّق قادة الغرب بعد اليوم؟
سعى النتن إلى تغيير جوهر المشكلة في الشرق الأوسط، شنّع على شعب يقع تحت الاحتلال والنار، حاول أنّ يقدّم نفسه امتداداً للغرب، ومدافعاً عن حضارته، وهذا هو الشّق الصّادق من خطاب النتن، فالاحتلال هو من ناحية امتداد للغرب الإمبريالي، جبهة غربية لاحتواء الشرق الأوسط ضمن مخطط قديم، ولكي يؤكد على ذلك، سيجد الصورة النمطية لمعادلة الصراع في الشرق الأوسط: إيران، هذه الأخيرة في نظره هي عدو الغرب، على الرّغم من أنّها في نظر هيغل، وحتى عهد القاجار، كانت جزءاً من الغرب، وهي حسب نتنياهو عدو اليهود، على الرغم من أن أكبر جالية لليهود في الشرق الأوسط توجد في إيران بحقوق كاملة.. مشكلة النتن ككل دهاقنة الاحتلال، هو زرع الكراهية ضد يهود العالم، حين كرسوا أيدولوجيا: يهودي- إسرائيلي، وهذه أضرت بقومهم، باعتبار الصهيونية أيديولوجيا غربية ساهمت في إخراج اليهود من أوروبا.
لقد سعى النتن إلى اختزال المشكلة في شيطنة إيران، باعتبارها خطراً على الغرب، على الرغم من أنّ مشكلة الصراع بين الكيان والعرب سابقة على الثورة الإيرانية، كما تحدّث لغة طائفية تظهر من أين جاء الوباء الطائفي وتكامل مع الظلامية في الوطن العربي، وهو في مستوى من مستويات خطابه لم يأت شيئاً فريّاً، فحديثه عن إيران كشرّ مطلق، تقاسمه معه الكثير من التيارات التي تماهت مع هذا الموقف، فما الفرق بين النتن الذي قال إنّ إيران شرّ وبين رئيس حكومة الإخوان عندنا خطب يوماً في حملة انتخابية ومن دون مبرر، بقوله إنه لم يأتنا من إيران إلاّ الشّر؟ وهو التيار الذي احتفظ بنزعته تلك حتى مع بدء الطوفان، بلى، لم يقل النتن شيئاً لم يقله هؤلاء جميعاً، وإن بدوا اليوم يخفون مواقفهم حتى تمرّ العاصفة، ويقلبون المجن.
لم تعد تلك مجرد مبالغة جيوستراتيجية تعكس ذروة فن الكذب كوظيفة سياسية، بل باتت حالة من تبلّد المعنى.. إنّنا لا نستحضر التفاصيل والسياقات، ونخلط بين البروباغندا وشراء الذمم من جهة، وبين العناصر الجيوستراتيجيا للصراع، التشنيع المطلق صناعة إمبريالية، ساهمت وتساهم في تشكيل عالم مُفارق.
تشويه حركات التحرر، وتجاهل وجود احتلال وإبادة جماعية، هي مركبة سهلة للعبور إلى الضفة الأخرى والإفلات من العقاب.. إنّ النتن سخر من العرب، من الشعوب، من أمم الأرض، من النظام الدولي، من القانون الدّولي، من الإنسانية، إنّه إعلان موت الضمير الإنساني وأفول الغرب السياسي.
لم تكن الحاجة إلى بذل جهد في فن الكذب، فالنتن يتحدّث عن عدم وجود كوارث في صفوف المدنيين، وأنّه خاض حرباً نظيفة هي الأقل في تاريخ الحروب من حيث عدد القتلى المدنيين، مثل هذا الكلام ردده قبله برنار هنري ليفي، إذا كانت هذه حرباً تحترم حقوق الإنسان، فكيف ستكون الحرب الوحشية؟
إنّ النتن استدرج الحقيقة للسباحة في البئر، ثم سرعان ما خرج من الماء العذب وارتدى ملابسها، ثم قدّم عرضاً ساخراً من كلّ عناصر الصدق، مثال لمجرم حرب يتحدّث عن السلام والحضارة والإنسانية، الجزء الغربي الذي صفّق لمجرم حرب، هو غرب يرى صورة ماضيه الاستعماري في الكيان، هم لا يتصورون عالماً خارج منطق الاحتواء الغربي ومركزيته، إنّها مصالحة مع المفارقة، ومادام قسم من العرب يمتاحون من المقاربة ذاتها، فلن نأمل أكثر من حالة مراوحة وهدر الانتصار، فالصدق لم ينبر متمحِّضاً للكذب، مازالت هناك فتوق، وهشاشة، ومساحات ملتبسة، ما زال فينا بعض من مكر العدو ونزعته للجريمة والالتفاف على الحقيقة واستعارة ملابسها، والمزايدة عليها، فالدّاء، رغم كلّ الآلام، مازال مستفحلاً في جزء كبير منّا، من كان يتمثّل موقف النتن في قلب الحقائق وسوء النّية في الخطاب، فلا يلوم النتن.