“أندريه دوبوشيه”.. في لعبته الفنية والقصيدة دائمة الارتقاء
تشرين- راوية زاهر:
عن وزارة الثقافة، الهيئة السورية للكتاب. المشروع الوطني للترجمة.. صدرت المجموعة الشعرية “في الحرارة الشاغرة”.للشاعر الفرنسي أندريه دوبوشيه، وترجمة الدكتور عبدو زغبور..
وعلى امتداد أربعة عقود، من دون تكرار صيغة، من دون تراخٍ، وأندريه دوبوشيه يسند توتر عزلته وشجاعتها إلى الاستمرار في الطريق، فوق دربٍ أساسي قاحل وحيٍّ في الوقت نفسه، مشتعل باختلاجات؛ إذ لا أحد يطفئ ظمأ خطاه.. على حدّ تعبير ألفريد إيسترادا.
حيث يقول في قصيدته (نيزك):
“أمشي، متحداً بالنار، في الورقة المبهمة.
وقد اختلط الأمر عليّ مع الهواء، مع الأرض المفرغة.
أعير يدي للريح
لن أذهب أبعد من ورقتي.
أبعد كثيراً من أمام نفسي،
فهي تملأ هوة.
أبعد قليلاً في الحقل،
نحن متساويان تقريباً
حتى الركبتين في الحجارة. ”
هنا جملتان: “أكتب أبعدُ ما يكون عن نفسي، لا أذهب أبعد من ورقتي”؛ تستطيعان أن تخدما كمفتاحٍ لأجل الاقتراب الأول من عمله الأكثر أصالة وترابطاً في عصرنا.
“أكتبُ أبعد ما يكون عن نفسي”: هذه الإشارة الدالة تعبّر عن شهية الارتقاء بالمشروع الشعري: تأسيس ما هو حقيقي في الكلمات على امتداد البريق حيث يلازمه في الوقت نفسه فشلُ اللحظة ونجاحها.
“لا أذهب بعيداً عن ورقتي” مهما أمل الشاعر في هذا المكان “الغياب الذي يقع في موقع النفس”يعود للاحتفاء بالحضور في إشعاع اللحظة واستهلاكها،علماً أنّ الكلمة، في النهاية، لا تستطيع أن تقوم كقوة مطلقة.
حيث الواقع في الكلمة ينتهي بالتحاشي أو بالظهور العابر..
فأندريه دوبوشيه شاعر يحبّ ما هو أساسي والأماكن الحرة، شاعر الرفض والغياب وحسب.. وكحالة من التآلف الوجودي عند بوشيه بين مكونات الطبيعة والحب يتناثر إبداعه بقصار الكلام على رحابة الورق الممدد كسحابة في رصدٍ حرّ للحركة الشعرية الغربية ورافد مهمّ للحركة الشعرية العربية مشكِّلًا رصيداً شعرياً داعماً للأدب العالمي.. فأمام لغة أندريه دوبوشيه؛ نقف أمام معجمٍ لغويٍّ يميل إلى الطبيعة الحية والصامتة بحضورها وفراغها من سماءٍ وأرض وجدار وجبل وضوء وثلج وليل ونهار وحقل وبرودة وحرارة وأطياف ونيازك ومصابيح وريح… مع فيض هائلٍ من التناقض البارز الذي يسبح في عالمٍ لغوي ساحر، تنامُ قصائده على كتف الجبل، وفي أحضان السحاب، بين جدارٍ مغلقٍ وآخر مفتوحٌ للأفق، يتدفأ بالثلج ويتبرّد بالحرارة في عالمه التناقضي الحاذق، يناجيك بين عتمة النهار وسطوع الليل، وكأنك أمام لوحاتٍ تشكيلية تشي بتداخلات لونية تنقلك إلى عالمٍ من الضّباب الكثيف القريب البعيد من الضوء الساطع والمعتم خلف أكتاف الجبل المتهدلة.
فالقصيدة تعبّر عن نفسها بالجهد ذاته في صياغتها وفي بنائها كقصيدة، إنها منذ البداية، اجتياح للمكان..
فالكلمات في حالة أندريه دو بوشيه قليلة لكنها أساسية وجوهرية.. تعيش معها مباغتة اللحظة وفلسفة الوجود وبلاهة النهايات، وتشي قصائده بالتجزئة إذ تنقلك من دون سابق تنبيه من عالمٍ مرئي إلى آخر غير مرئي، ومن عالم الحقيقة إلى عالم المجاز والبلاغات والكنايات والصور الحية والصامتة والخيال: الأرض الفسيحة تنزف،
في هذا الإقليم الأسمر،
أمشي متحداً بالنار، في الحرارة المرتجفة،
تحدّث المصباح اليوم،
الدرب الذي مازلتُ أغرق فيه يتقدمني كالريح..
مجازات غاية في الرفعة.. ومن نص في صميم الأرض يقول:
مثل الدرب الذي تلهبه خطواتي
مثل رياح الغروب المتواصلة بقسوة
مثل المحرّك الأحمر للريح
هكذا تعرّيت.
فنحنُ كما أسلفنا أمام قصيدة دائمة الارتقاء والصعود، غاية العمق متجاوزة كل سطحيات اللغة معنى ومبنى، متأرجحة ما بين الحب والطبيعة والوجود.
فالشاعر يميل إلى الأماكن الحرة والفضاءات الرحبة، ناره موقدة، سماؤه عالية متمددة ومتدلية، وفي شعره للأرض المنبسطة قممها، وجبله ناريّ أخضر، نحاسيّ…
يكتبُ كما بقول وأبعد ما يكون عن نفسه، والنّار في عرفه ثمرة النهار، والدّرب ذائب أبيض للعيون المضروبة بالحجارة… الحقلُ فارغٌ والسماءُ فوق الجدار بين الهواء والحجر.. والضوء في قاموسه يُتلف والظلّ يرصّع الأرض.. ومن عمق مجازاته أن للحرارة وجهًا، وبردُ العاصفة المفاجئ يثير حرارة الجسد، أيّ لغة ناطقة بلسان عمقها هذه اللغة؟ شاعر من طينةٍ فلسفيةٍ مشبعة بالسخاء والإبداع، ومن نص (المحرك الأبيض نقتبس) :
أكبح نفسي كي أشعر بالحقل الفارغ
السماءُ فوق الجدار بين الهواء والحجر.
أدخل حقلاً بلا جدار، أشعر بجلد الهواء
ومع ذلك نمضي منفصلين
ولا نار خارجنا.