إذا ما أراد الأوروبيون إصلاحاً وإنقاذاً.. من أين يبدأون؟
تشرين- د. رحيم هادي الشمخي:
على الساحة الأوروبية ليس جوزيب بوريل وحده هو من يطلق الصوت، تنبيهاً وتحذيراً، ومناشدة لبدء التحرك، قبل أن يفوت الأوان ويجد الأوروبيون أنفسهم كالمثل القائل: على نفسها جنت براقش.
بوريل وهو مسؤول الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، هو الأعلى صوتاً، والأكثر شرحاً وتوضيحاً، وهو يسمي الأشياء بمسياتها، عندما يتعلق الأمر بمستقبل أوروبا وعلاقاتها، مع أميركا من جهة، ومع روسيا من جهة أخرى «العلاقة مع الرئيس فلاديمير بوتين والحرب الأوكرانية».
ونحن هنا نستثني رئيس وزراء هنغاريا/المجر، فيكتور أوربان، على اعتبار أنه يغرد خارج السرب من البداية، وهو ليس محسوباً على الفريق الأوروبي الذي يفضل البقاء تحت السقف الأميركي.. ومراقبة هذا السقف وهو ينهار فوق رأسه؟!
المفارقة ليست هنا، ليست في أن المسؤولين الأوروبيين باتواً أكثر علانية في التحدث عن المستقبل، ولماذا تخسر أوروبا ويربح بوتين كما يقول بوريل. المفارقة في أنه رغم التوصيف الدقيق لما آلت إليه أوضاع الأوروبيين، ولما ستؤل إليه في المرحلة المقبلة، خصوصاً ما بعد قمة حلف شمال الأطلسي«ناتو» الـ75 التي اختتمت الخميس الماضي في واشنطن.. المفارقة هي أنهم يقولون فقط، وحتى أنهم يعرفون طريق الخلاص، ولكنهم لا يمشونه، بل يتركون الأمر والنهي للولايات المتحدة الأميركية في رسم مصائرهم وتحديد مسار الحرب الأوكرانية، وفق ما يناسب قواعد الاشتباك الأميركي مع روسيا، فيما روسيا/ بوتين تتقدم وتسيطر وتوسع مساحات التواجد العالمي، خصوصاً في القارة الإفريقية إلى جانب منطقة الشرق الأوسط.
هذا التواجد كان حاضراً بقوة على طاولة قمة «ناتو» قراراتها النهائية، أي بيانها الختامي، عكس هذا الحضور، من خلال التوجه لنشر أسلحة استراتيجية في عدد من الدول الأوروبية، بدءاً من ألمانيا، لسد فجوة «التخلف التسليحي» الأوروبي مع روسيا في حال تطور مسار الحرب الأوكرانية باتجاه جغرافيا أوسع.. إلى جانب فتح ما يسمى مكاتب إقليمية على مستويين، أوروبي وشرق أوسطي، في ألمانيا، وفي الأردن.
أما افريقيا فلايزال الناتو يتخبط، وبدءاً من شهر أيلول المقبل عندما تستكمل الولايات المتحدة انسحابها من النيجر، سيكون الغرب خارج القارة الإفريقية، باستثناء الدول العربية التي مازالت تشكل مسرحاً للمخططات الأميركية، خصوصاً ليبيا، لكن ما يهم الغرب هنا هو الدول الإفريقية التي بات خارجها وهي الأغنى بالثروات والمعادن النادرة، وهي الأسواق الأوسع، وهي التي بات الغرب ينظر إليها كمنقذ اقتصادي من جهة، وصراع نفوذ مع الخصوم من جهة ثانية.
لكن بوريل يرى أنه حتى في افريقيا، تفوز روسيا وتخسر أوروبا، فيما لم تفعل الولايات المتحدة شيئاً حتى الآن، يقول بوريل بدهشة: إنهم يحبون «بوتين».. يدعمونه، روسيا تحظى بدعم الشعوب الافارقة، الشعوب تدعم بوتين. يقولون إنه أنقذ دونباس.
ويوضح بوريل أكثر بأن بوتين فعل ذلك من دون اسقاط قنابل أو نشر دبابات. إنها حرب عقول، حرب في الفضاء الالكتروني. روسيا احتلته بالكامل رغم أن الاتحاد الأوروبي نشط للغاية في هذا المجال.
إذاً ما العمل؟
يقول بوريل: أوروبا بحاجة إلى نهج جديد للدفاع مع التركيز على حرب المعلومات بدلاً من التكتيكات العسكرية التقليدية. نحن بحاجة إلى جيش مختلف. نحتاج الدخول إلى عقول الناس. نحتاج إلى أشخاص يراقبون شبكة الإنترنت، وأشخاص يشرحون ما يجري، ويعيدون برمجة المستمعين، ويزودونهم بالمعلومات الصحيحة، من أجل منع التدخل في العمليات الانتخابية (على حد تعبير بوريل).
هذه لست المرة الأولى التي يتحدث فيها بوريل هكذا، وكثيراً ما عرج على فاعلية الإعلام الروسي في مواجهة الإعلام الغربي/ الأوروبي تحديداً/ الذي عجز حتى عن استقطاب الناخب الأوروبي. وكانت الانتخابات البرلمانية الأوروبية خير مثال. اليمين الأوروبي المتطرف الذي سيطر برلمانياً في هذه الانتخابات لا يخفي حقيقة أنه يسعى للتقارب مع روسيا، وتسوية الأزمات معها، ويرى أن مستقبل أوروبا يتوقف على تصحيح العلاقة مع روسيا.
بوريل حذر من نظرية الدومينو في مسألة توجه الدول نحو روسيا (وبطبيعة الحال الصين). في افريقيا لم تكد تطل روسيا برأسها حتى بدأت الدول تباعاً تتوجه إليها، واحدة تلو الأخرى، وفي آسيا، وفي الشرق الأوسط نشهد المسار ذاته.. حتى أميركا تشعر بالتهديد الكبير وتتصرف على هذا الأساس.
مرة أخرى، ما العمل؟
تصريحات بوريل الجديدة ستذهب أدراج الرياح مثل سابقاتها، رغم أن الأوروبيين متأكدين مما آلت إليه أوضاعهم، وعلى من تقع المسؤولية، لكنهم ما زالوا يفتقدون جرأة الابتعاد عن واشنطن. ما زالوا يحسبونها بعقلية الحرب الباردة والعداء لروسيا الذي كرسته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. هذا ما ظهر مجدداً في قمة الناتو الأخيرة. وبشكل بدا معه أن لا فكاك للأوروبيين من نير التبعية لأميركا. لقد قالت أميركا أنها تريد كذا وكذا وكذا، في أوكرانيا وعلى الساحة الأوروبية، وفي الشرق الأوسط ، وفيما يخص روسيا والصين. والأوروبيون أومأوا موافقين.
مرة ثالثة.. ما العمل؟
كيف يمكن أن يطبق الأوروبيون ما يقولونهم بألسنتهم؟
ربما السؤال الأهم من كل ذلك والذي هو المعضلة الأساسية بالنسبة لهم، هو من أين نبداً؟
إذا ما أراد الأوروبيون إصلاحاً لحالهم، وانقاذاً لمستقبلهم.. من أين يبدأون وكيف يبدأون؟
كاتب وأكاديمي عراقي