عصام المأمون: مَشاهد مُدهِشة مع أطقم أسنان وقُصاصات فواتير
تشرين- لبنى شاكر:
ربما هي المرة الأولى التي يُسهم فيها طقم أسنانٍ بصناعة لوحةٍ تشكيليّةٍ، بعد أن صبّ عصام المأمون قوالب مُطابقة له من مادة الريزين، بحيث يُمكن القول إن مُحاولاته إيجاد لوحةٍ تتجاوز المألوف، لِتتوافق مع مُعطيات عصر المُشاهَدَات كما يُسمي أيامنا هذه، نجحت فعلاً، بموازاة بحثٍ مُتواصلٍ منذ أعوام عن الجدة والاختلاف، فلم يعد السطح الدسم مجرّد تجربة، إنما مشروعاً مشغولاً عليه بتأنٍ وتفكير، لَنَا أن نقبله أو نستهجنه أو نرفض كمّ الأشياء التي أصبحت بلا سابق إنذار، جزءاً من عملٍ فنيٍّ، لكن يصعب أن لا نقف ونتفرج ونُبحلق بالمُكوّنات الغريبة.
استخدم عصام المأمون التنك المثني إشارةً إلى التجاعيد والزجاج المُهشّم بديلاً عن مَعالم الحزن
لغاتٌ تشكيليّةٌ جديدةٌ
تطويع التقنية لخدمة الموضوع، ليس جديداً على المأمون، لكنه في معرضه الفردي السابع، المُفتتح مُؤخراً في صالة الرواق العربي، وصل إلى نتاجٍ مُختلف وأكثر نضجاً عمّا قدمه سابقاً، عبر ثمانين لوحة، تنوّعت أحجامها ومواضيعها وتقنياتها، أو على حد وصفه لـ “تشرين” فيها لغاتٌ تشكيليّةٌ جديدةٌ، تُكمِل ما جاء في المعارض السابقة، عن الناس الذين يختبرون اليأس والخذلان يومياً، وهنا لجأ إلى مواد عديدة كرموزٍ ومداخل، منها لحاء الشجر وخزيران النخيل، والعملة القديمة، كذلك استخدم التنك المثني إشارةً إلى التجاعيد، والزجاج المُهشّم بديلاً عن معالم الحزن، مُضافاً إليها الكثير من قصاقصات الفواتير وجداول الحسابات، وبقايا المعادن، وأوراق الضرائب والوصفات الطبية والحجارة، مُحقِقاً في النتيجة لوحةً تتمتع بالديمومة والغرابة، تستحق أن يوليها المتلقي اهتماماً بصرياً وذهنياً.
ليس سهلاً أن نُدهِش المُتفرج أمام لوحة، لكن يجب أن نُقدّم له لغةً بصريّةً ليست أقل مما يُحيط به
الانحياز نحو مفهومٍ جديدٍ للفن، دفع المأمون لإخراج اللوحة من فكرة الإكريليك والزيتي فقط، فصنع بالكولاج النافر سطح عجينةٍ خشناً، مُتكئاً على أحقية الفنان المعاصر استعمال كل شيء لِيُقدّم مَشهداً بصرياً جديداً، ويكسر إطار الكلاسيكية في اللوحة التي صارت مملة أحياناً. وحسبما يرى التشكيلي يجب أن نُقدّم مَشاهد غير اعتياديّة في عصرٍ يُبهر المتلقي، بالتأكيد ليس سهلاً أن نُدهِش المُتفرج أمام لوحة، لكن يجب أن نُقدّم له لغة بصرية ليست أقل مما يُحيط به، وهو ما عدّه تحدياً بالنسبة له على الأقل، فهو كما يقول عن نفسه “فنانٌ مُتمرّد على كل ما شاهده من تشكيل”.
تعبيراتٌ رمزيّةٌ عن المآسي
غزارة الكم والموضوع، وكأنّ التشكيلي يدمج عدة معارض في واحد، تعود ربما إلى رغبته إعطاء المشروع حقه بعد سنتين ونصف من العمل، وفي المجمل تظهر عنده تعبيراتٌ رمزيةٌ عن أولئك الذين اختبروا الحروب والمجاعات وكوارث الطبيعة، وفي كلّ مرة كانوا ضحايا لا حصر لهم، وكأنّ الموت مهما تعددت أسبابه، لن يُمهلهم وقتاً إضافيّاً للحياة بسلام، ولذلك فضَل المأمون ألّا يختار عنواناً جامعاً لأعماله، تاركاً للمتلقي حرية إطلاق ما يراه مناسباً من مفردات، وعلى ما يُوضحه في اللوحات دعوةٌ للتمعّن بما تفعله مصالح البشر وولاءاتهم العبثيّة وقسوتهم بالآخرين، لهذا لا مكان لأية ألوانٍ مشرقة أو بواعث على شيءٍ من الأمل والتصبّر، مقابل كثيرٍ من القتامة واللوعة.
في اللوحات دعوةٌ للتمعّن بما تفعله مصالح البشر وولاءاتهم العبثيّة وقسوتهم بالآخرين
في مجموعة لوحاتٍ تظهر أطقم الأسنان التي بدأنا مقالتنا بها، مفتوحةً تشي بفجيعةٍ ما، ومراتٍ تأتي ضاحكةً بشكل هستيري، مع تشكيلةٍ من الأوراق المالية، وستة عيون في وجه له خلفية زرقاء، لعلّها تلميحٌ إلى الغرقى الذين يبتلعهم البحر، وفي سياقها كومة أجسادٍ تكدست في شبكةٍ كبيرةٍ، وفي غيرها نرى أجساداً تضمها الأرض، كما لو كانت قبوراً، كذلك عرض إعادة تمثيلٍ للصلب مع بورتريهاتٍ تداخلت ملامحها، وأخرى فقدت أعناقها ومعظم تكوينها البشري، فيما قطع زجاجٍ حادة تحتل مكان العين والوجه والفم، وعلى ما يُشبه شباكاً في سجنٍ أو سقيفة تضم حشداً من الناس، كتب المأمون بخط يده “دزينة بإنسان.. ضد الجوع، ضد الحرق، ضد الكسر، ضد الحروب، ضد الكرامة، ضد الغرق، ضد الضحك، بضاعة أصلية ثمينة”، مُوجزاً الكثير الكثير عن المسحوقين في طول الأرض وعرضها، ولا غرابة أن تحلّ الأشياء إذاً مكان اللحم والدم المُفتَرضَين.