صناعةُ اليأسِ .. و الحربُ الرابعةُ
على الأرجح.. لو أدرك أحفادُ أدباءِ حقبة «تمجيد الألم» الأوروبيون في القرن التاسع عشر، أن أجدادهم خدّروا البشر وأشاعوا اليأس، وتسببوا بخسارات كبيرة وفوات منفعة للشعوب بكل أوجه نشاطها البشري، لطالبوا بمحاكمتهم – ولو مراءاة – للتنصل من المسؤولية، لأن معظم رداحي تلك العصور لم يعانوا، بل أمعنوا تكلٌفاً في تصنّع المعاناة تأجيجاً للسوداوية ووجدانيات سلبيّة مكتنزة في تكوين النوع البشري بطبيعته.
ومثلهم فعل بعض العرب من رواد أدب النكبة وساستها في القرن الماضي، لينتهي بهم المطاف في أجمل مدن أوروبا بعد أن ألهبوا الشارع العربي كله حزناً وكآبةً.. كما أن كبار مطربي ما نسميه «الزمن الجميل» كانوا يغادرون المسارح والصالات بسيارات فارهة، تاركين الجمهور يكمل حفلات التنهيد والبكاء وتجفيف الدموع، ومن ثم البحث عن وسيلة نقل جماعي يتدافعون نحوها للمغادرة..
تأخر الجميع وتأخرنا معهم في إدراك حجم الخديعة التي ألمّت بهم.. من أوروبا النهضة إلى مضمارنا العربي المُترع بالمآسي الجاهزة للإيقاظ والتأليب.
هي صنعة و«أكل عيش» كما يقول أشقاؤنا المصريون، فالتجارة بالوجدانيات الرائجة ونفحات الإحباط واليأس، عبر التماهي مع ما نسميه اليوم «تريندات» على وسائل التواصل الاجتماعي، حالة ليست بجديدة، لكن الجديد هو الأداة والوسيلة، والعبرة في «لملمة» وتجميع الزبائن والمتفاعلين للوصول والانتشار.
الواقع أن الأزمات بمختلف أشكالها وشدتها، هي جزء من السيرورة الطبيعية لحياة الشعوب والمجتمعات والدول، لكن ماهو غير طبيعي أن يكون ترسيخ وتضخيم شحنات اليأس المرافقة لها صنعةً أو تجارة رابحة، وغير الطبيعي – بل الخطير- أن تستحكم الطاقة السلبية بمساحة أوسع وتزداد اتساعاً، بفعل دحرجتها ككرة الثلج، ليغدو الحديث عن ملامح بيضاء وإيجابيات مهما كانت واقعية، مجازفة تعرض أصحابها لتبعات قاسية أقلها «التنمر».
الإحباط واليأس ومرادفاتهما بالعموم أعداء ألداء للحياة بكل مافيها من استحقاقات وآفاق بالمطلق، ونظن – غير حذرين – أن ثمة أدوات ووسائل مبتكرة دوماً في هذا العالم، لضخ سموم اليأس في أوساط شعوب مختارة وفق أجندات سياسية واقتصادية، لإحداث شلل تنموي عام وشامل.. وإلا لماذا تنجو بلدان تعصف بها أزمات مزمنة ومديونية خانقة ومظاهر فقر وتشرد، من «القصف السلبي»، وتقع أخرى في عين عواصف متوالية..؟
لن ندخلَ في دوامة تصنيف الدول المستهدفة بمثل هذه الأسلحة الفتاكة، لكننا على يقين من أننا في سورية نمتلك كفايتنا من مقومات الردع، لكننا لم نستثمرها واسترخينا ونحن نعاين فصول الردح البغيض الذي شتت رؤيتنا وأضاع رشدنا.
نحن جميعاً -إعلاماً ومسؤولين تنفيذيين وهيئات مجتمع أهلي- أمام مسؤوليات جديدة، عنوانها الإفصاح عن الحقائق والتبشير بالآفاق الواعدة الحقيقية، دون خوف من الاستهداف بسهام الحقد ووأد كل ملمح جديد يلوح في أفق هذا البلد.. المهمة ليست صعبة.. فقط علينا أن نبدأ.