خطوة ضرورية لمواجهة العجز المالي.. رؤى إستراتيجية لتصويب مسارات الدعم بتوقيع خبراء.. نفقات أقل وجدوى أفضل بحاجة لقرار جريء

تشرين – بارعة جمعة:
ضرورةٌ اقتصادية واجتماعية في وقتٍ يُعاني مبدأ العمل به من إشكاليات كثيرة وسوء توزيع ترجمه عدم وصول المُخصصات إلى مستحقيها، عدا كميات الهدر.. هو ملف الدعم وما يحمله من إشارات استفهام بدت للكثير كحالة غير مفهومة ومُكرسة لمصلحة المُنتفعين منها، ممن ساهموا بنشوء ظواهر غير مُنظمة عُرفت باسم السوق السوداء لكل سلعة مدعومة.. وأمام كل هذه التبدلات في طرق توزيعه وما لحقه من استثناءات للبعض ممن خرجوا من مظلته يُقدم الخُبراء رؤيتهم ضمن مفهوم التقويم والتصحيح لآلية العمل به وفق المُتغيرات الحالية وبما يصب بمصلحة اقتصاد الوطن والمواطن.

المُتهم الأول
صفةٌ لازمت مفهوم الدعم منذ بدء العمل به وحتى اللحظة، لما تعانيه الموازنة العامة من عجزٍ في تقديم الدعم المالي ضمن هذا المنظور، الذي مازال حتى اللحظة محط جدلٍ للخبراء الاقتصاديين حول الاعتراف بكونه المُتسبب الأول بالعجز المالي في الموازنة العامة للدولة، وهو ما طرحته وزيرة الاقتصاد سابقاً الدكتورة لمياء عاصي ضمن حديثها مع “تشرين”، مُتسائلةً: هل يلزم تخفيف الدعم أو التخلص منه كخطوة ضرورية لمعالجة العجز المالي، وبالتالي السيطرة على معدل التضخم؟!, نعم هو تساؤل مطروح وتختلف الآراء حوله باختلاف المذاهب والرؤى الاقتصادية والسياسية.

د. عاصي: سياسة الدعم تعاني من نقاط سلبية كثيرة أولها الفساد والهدر في عمليات التنفيذ والتوزيع وشراء المواد المدعومة يليه عدم وجود قاعدة بيانات صحيحة ودقيقة عن الأُسر المستفيدة من الدعم

في حال النظر إلى الدعم بكل أنواعه، كنفقات مالية تشكل عبئاً على الموازنة العامة للدولة وتؤدي إلى العجز المالي الذي قد يرفع معدل التضخم، يكون الجواب نعم.. برأي د. عاصي، لكونه أحد أهم أعباء الموازنة, إلا أن للقضية وجهاً آخر، حيث إنه من الممكن معالجة العجز المالي من خلال زيادة الإيرادات العامة وليس بخفض الإنفاق العام فقط, وهو ما تضمنه تعريف العجز المالي بأنه الفارق بين النفقات والإيرادات، ولزيادة الإيرادات العامة للدولة من الممكن اتباع سياسات ومعالجات، منها إدارة واستثمار أملاك الدولة والتهرب الضريبي والجمركي وغيره، وفق رؤية الدكتورة عاصي.

ضرورة حكومية
إذا اعتُبر الدعم واجباً تقوم به الدولة تجاه المواطنين لتمكين الفئات الأقل دخلاً من الحصول على السلع الغذائية الأساسية مثل: “الخبز الرز والسكر” أو المشتقات النفطية والكهرباء وغيرهما, وخصوصاً عندما تكون غير قادرة على تأمين مستوى دخل مناسب لتلبية متطلبات الناس, فإنه يكون أساسياً وضرورياً وفق قراءة الدكتورة عاصي لموجبات الدعم، في سبيل تحقيق الأمن الغذائي للمواطنين، الذي يُعد جزءاً أساسياً من الأمن الوطني ولا يجوز المساس به.

د. عاصي: دعم السلع الزراعية المُنتجة تدريجياً بدءاً بالقمح والقطن والشوندر السكري وغير ذلك من السلع الاستراتيجية والاستغناء عن الاستيراد وزيادة الصادرات

إلا أن سياسة الدعم تُعاني من نقاط سلبية كثيرة، أولها الفساد والهدر الذي رافق عمليات التنفيذ والتوزيع وشراء المواد المدعومة, يليه عدم وجود قاعدة بيانات صحيحة ودقيقة عن الأُسر المستفيدة من الدعم, وعدم توفر المواد المدعومة بشكل دائم، وانقطاع مُعظمها مثل الرز والسكر والمشتقات النفطية، وعدم استقرار آليات توزيع الخبز، إضافة إلى بيع المواد المدعومة في السوق السوداء وبأسعار عالية، وفق توصيف د.عاصي للواقع.

مطلب ضروري ولكن!
ومن أهم العوامل التي تضر بالاقتصاد والمجتمع السوري، لكن هذا لا يعني أن الدعم مطلوب، شرط تصحيح مسار عمله من حيث آلية ومطارح هذا الدعم من جهة، ومن حيث حجم الهدر والفاقد الذي تتسم به عملية إيصاله.. رؤية موضوعية قدمها أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق الدكتور عابد فضلية عبر حديثه مع “تشرين”، مُقدماً تساؤلاته حول المبالغ التي تُنفقها الدولة في سبيله والتي بلغت 100 مليار ليرة سورية على سبيل المثال، لكن هل تصل إلى مستحقيها؟ وهل تحقق الغاية والهدف والفوائد منها على الاقتصاد والمجتمع بما يساوي تكلفتها على الخزينة العامة على الأقل؟ وهل ما تصل فعلاً هو لمن يستحقه، أم إنه يصل بقصد أو غير قصد لمن لا يستحقه؟! وبالتالي، وبسبب ذلك نشهد على أرض الواقع أن ما يصل من دعم إلى مستحقيه الحقيقيين لا يكفي إلا لـ«10 أو 20%» في أفضل الأحوال.. ألا يتم بيع أو تهريب جزء من محاصيل (القمح والقطن والشعير) المدعومة؟!

د. فضلية: الدعم مطلب ضروري شرط تصحيح مسار عمله من حيث الآلية والمطارح وحجم الهدر والفاقد الذي تتسم به عملية إيصاله

مشكلات وحلول

في المحصلة يجد فضلية أن ما يواجه الدعم اليوم هو أنه دعم (سلعي)، يضيع قسم منه في طريق الوصول إلى مستحقيه، في وقت نجد أن الدعم (الزراعي والإنتاجي) على سبيل المثال يُقدم لمستحقيه (المفترضين) قبل استلام المحصول، أي يتم بيع وتهريب جزء منه، وبالتالي نفقد الهدف أو الغاية من هذا الدعم، لذا فإنه سيصل إلى مستحقيه الحقيقيين فعلاً من دون هدر أي قرش منه فيما لو تم تسليمه بعد احتسابه بدقة عند استلام المحصول بإضافته (صافياً) إلى سعر الشراء.
وكذلك لا بد من إعادة النظر بنسبة الدعم، حيث إنه عند التفكير بإعادة النظر بالدعم وآلية ومنهجية الدعم لا بد من التفريق بين دعم السلع الغذائية والضرورية وبين دعم إنتاج السلع (خاصة الزراعية منها) والتفريق بين دعم السلع وإنتاجها ما بين الدعم الموجه إلى جهة محددة والدعم الموجه للعموم، برأي د. فضلية، ومن خلال هذا التمييز يمكن إقرار المنهجية والآلية المناسبة لإيصال الدعم ويتم تحديد نسبته حسب طبيعة المكان (20%) أم (40%).. على سبيل المثال هل يجب أن يكون (سلعياً أم نقدياً؟).. وهل يوزع قبل الاستلام (عند الإنتاج أم عند الاستلام؟).. وهل تتم إعادة النظر بشكل الدعم من كذا إلى كذا فوراً؟.. بعد سنة، أم من خلال خطة زمنية.. هنا فقط يمكننا ربط كل ذلك بمستوى التضخم والأسعار والقوة الشرائية.. وبالوضع السياسي والأمني والاقتصادي.. إلخ، حسب توصيف فضلية.

د. فضلية: لا بد من إعادة النظر بمسألة الدعم (بمختلف أشكاله وأنواعه) من أساسها ولا مهمة للحكومة الموقرة أهم من هذه

ويضيف الدكتور عابد فضلية شارحاً ما يجب فعله قائلاً: “بكل الأحوال لا بد من إعادة النظر بمسألة الدعم (بمختلف أشكاله وأنواعه) من أساسها لتكون أكثر عدلاً وموضوعية وفاعلية ورُشداً لكي لا تبقى حالات الفساد والهدر وعدم المساواة مستمرة في الاقتصاد ولدى الشعب السوري، الذي يستحق مستوى معيشته كل العناية والاهتمام.. ولا مهمة للحكومة الموقرة أهم من هذه”.

تقييم وإصلاح
كما أن المسيرة التاريخية للدعم في سورية أثبتت أنه سبب الفساد، وأن المستفيدين الحقيقيين منه ليسوا الفقراء، رؤية عبر من خلالها نائب عميد كلية الاقتصاد بجامعة دمشق للشؤون العلمية الدكتور إبراهيم العَدي عن مخرجات عملية إدارة الدعم خلال الفترات الماضية ضمن حديث خاص لـ”تشرين”، والتي برأيه أظهرت برجوازية لم يتنبأ بها “ماركس”، هي برجوازية (الغاز والكاز والمازوت والخبز والخميرة)، وصولاً إلى ورقة اليانصيب أيضاً، وهو ما حول الدعم إلى كذبة وتشويه للقوانين الاقتصادية.
«التجارة الداخلية» تُصرح بأنها تدعم ربطة الخبز التي تبلغ تكلفتها 7000 ليرة، إلا أنه من الأفضل للمواطن اليوم إعطاؤه هذا المبلغ نقداً وهو أمرٌ ليس بالصعب، برأي د. العَدي، فمن استطاع إيصال البطاقة الذكية لكل امرأة ورجل ومُسن في كل مناطق سورية يُمكنه إيصال الدعم ضمنها نقدياً أيضاً، لكونه يُلغي حلقة الفساد، مؤكداً بالوقت ذاته أن الدعم لا يتم عبر السلع، بل يجب توجيهه إلى مستهلِك السلعة وليس للسلعة.
تحرير السلع
إلغاء الدعم سيُخفض استهلاكه للنصف، اقتراحٌ قدمه الدكتور العَدي من مبدأ أنه عندما يتم منح الخبز سعراً اقتصادياً سيتحسن رغيف الخبز بالنتيجة، ويُلغي ظاهرة بيعه على “البسطات” أمام الأفران، فالكثير لا يستهلك مخصصاته ما يُعرضها للمُتاجرة والسمسرة أيضاً، كما أن رفع سعر الربطة لـ 400 ليرة عرّض الدولة والمواطن للخسارة مقابل الربح لمصلحة صاحب الفرن.

د. العَدي: في سورية ما يُسمى الشمول المالي.. أي بإمكان الحكومة فتح حساب باسم كل شخص وإيصال الدعم النقدي إليه بما يكسر حلقة الفساد

هنا يلفت الدكتور العَدي إلى أن في سورية ما يُسمى الشمول المالي، أي بإمكان الحكومة فتح حساب باسم كل شخص وإيصال الدعم النقدي إليه بالاعتماد على قاعدة البيانات المشكّلة ضمن البطاقة نفسها،على أن يتم تحديث قاعدة بيانات المستفيدين دورياً، بهذه الطريقة يتم القضاء على كل أشكال التزوير واستخدام أسماء المتوفين أو المسافرين, كما سينتج عن تطبيق هذا الاقتراح توفير تكلفة الفساد والهدر الكبيرة، حيث تبين أن الحكومة رجل أعمال فاشل، بينما مهمتها تقوم على أن تُخطط وتُنفذ وتُعاقب برأي د. العَدي، وعليها القيام بنشاط اقتصادي أو تجاري، لكن اليوم كل نشاط تقوم به يمكن أن يشوبه الفساد، بينما يبقى السوق هو من يُنظم كل شيء برأيه.
الكهرباء تحتاج إلى حلول جماعية كالمياه والاتصالات، في وقت يختلف قطاع الكهرباء عن المواد الغذائية والخبز، برأي د. العَدي، والحل في تنظيم الكهرباء وضمان توفرها دائماً يتم عبر إنتاجها من القطاع الخاص ومن ثم توزيعها بشكل عادل، لكون القطاع العام بات مُستهلكاً دفترياً، وعلينا اتباع الخصخصة على الطريقة الألمانية، أي أن نبيع محطة كهربائية بليرة سورية للقطاع الخاص مُقابل الحفاظ على الأيدي العاملة فيها التي ستتجدد بيولوجياً تلقائياً، كما أنه من غير المنطقي أن يكون لدى الدولة معمل جوارب وآخر للبسكويت، وهذا من صميم عمل القطاع الخاص، فيما يبقى للدولة دورها بالتخطيط والمراقبة والعقاب بالقوة لإحقاق القانون، وفي النظر لما استُهلك بسورية من طاقة شمسية وبطاريات،

د. العَدي: الكهرباء تحتاج إلى حلول جماعية وعلينا اتباع الخصخصة على الطريقة الألمانية ببيع المحطات للقطاع الخاص مُقابل الحفاظ على الأيدي العاملة فيها التي ستتجدد بيولوجياً تلقائياً

نجد أن هذه المبالغ تكفي لبناء محطات حرارية، وكل سلعة تحمل سعرين تسمح بفتح سوق سوداء لها، في وقت نرى فيه أنه في كل دول العالم يُعامل القطاعان العام والخاص بالشيء نفسه كما يخضعان لقوانين اقتصادية، بينما لدينا الكثير من المصانع توقفت ولا يزال العمال يستوفون مرتباتهم من دون عمل، وهو خلل لوجود جهات تعاني نقصاً في الأيدي العاملة.

خطوة مكملة
لابد من اتباع سياسة دعم السلع الزراعية المُنتجة محلياً تدريجياً، هو ما أكدت عليه الدكتورة لمياء عاصي أيضاً، من خلال البدء بالقمح مثلاً والقطن والشوندر السكري وغير ذلك من السلع الاستراتيجية، ما يُسهم في تطوير الإنتاج الزراعي والاستغناء عن الاستيراد وزيادة الصادرات، لأنه من خلال دعم المحاصيل الزراعية يمكننا حل مشكلات اقتصادية تتعلق بالناتج المحلي الإجمالي والبطالة والتصدير والاستيراد، كل ذلك يتم برأي د. عاصي من خلال قيام الدولة بشراء المنتجات الزراعية بسعر أعلى من السعر العالمي بحدود (10 لـ 15%) أو أكثر, وهي سياسة متبعة في كثير من الدول، تسهم مباشرة في تطوير الإنتاج الزراعي وتشجع وتحمي المزارعين، إضافة إلى دورها في زيادة الصادرات الزراعية.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار