مفاجآتُ ما وراءَ الغبارِ
دخلَ قادةُ «الكيان» بكلِّ جيشه وترسانته التدميريّة، ومعهم الولاياتُ المتّحدةُ بحاملات الطائرات التي استقدمتها إلى مياه المتوسّط في نفقٍ سحيقٍ أعمق بكثيرٍ من الأنفاق التي يتوجّسون منها في القطاع.
ففي الاعتبار الزمنيِّ، خرجتْ الوقائعُ ومجرياتُ المواجهة عن السيطرة، وتجاوزتْ عتبةَ ما كان يمكنُ تسميتُه «الضربةَ الخاطفة» التي يحرصُ عليها كثيراً ساسةُ وقادةُ الاحتلال في تنفيذ حروبهم عادةً، وها هي الأحداثُ في غزّة تتجهُ نحو أفقٍ طويلٍ ومديدٍ، وهذا أكثر ما يرعبُهم، حكومةً وجيشاً ومستوطنين؛ لأن تجاربهم مريرةٌ مع هذا النوع من الحروب، ودرسُ تموز ٢٠٠٦ في لبنان مازال ماثلاً في الذاكرة القريبة للجميع.
لا نظنُّ أن ثمّةَ مفردةً أدقّ من «تورّط» لتوصيف ما يحصلُ!!
بالفعل؛ تورّط الكيانُ، وورّط معه الإدارةَ الأميركيّة، واليومَ، يمكنُ ببساطةٍ تلمّس حالة تنازع مواقف حقيقيّة تدورُ في الكواليس هناك، تماماً، كما هو الحالُ بين مقامرٍ مخمورٍ غرق في متوالية خسائر، ويدفعُ بكلِّ أوراقة لاسترداد ما خسرهُ، وشريكٍ يحاولُ ثنيهُ عن الاستمرار في اللعب لإنقاذه من الغرق أكثر.
المقاربةُ تبدو موضوعيّةً لكلِّ مَنْ يجيدُ قراءةَ حقيقة المشهد الراهن، فالمعلوماتُ المسرّبةُ من داخل أروقة إدارة عمليّات التدمير، تتحدثُ عن اختفاء 88 دبابةً لقوّات الاحتلال منذ بدء الحرب البريّة على غزّة، وتسريباتٌ أخرى تفضحُ المخاوف الكبيرةَ المُستحكِمة بغرف عمليّاتهم من الأنفاق المفخّخة المضبوطة بشبكات تحكّمٍ لتفجيرها وابتلاعهم حالَ دخولهم إليها.
الواضحُ من حمّى التصعيدِ المسعور؛ أن حكومةَ الاحتلال تسعى للإمعان أكثر في التدمير في غزّة، ثم توسيع دائرة الحرب خارج حدود فلسطين؛ لتحويل الانتباه عن إخفاقاتها، بل؛ وتسويغها، لتكونَ مشروعةً عندما تحصلُ في مواجهاتٍ واسعة الطيف، ومع قوى إقليميّة متعدّدة، أما الأميركيُّ؛ فقد جاء لأهدافٍ محدّدة، ويعدّ نفسَه غيرَ معنيّ كثيراً بالوصيّة الدينية التي يُجاهرُ بها «اليمينُ الصهيونيّ»، ويستميتُ لتنفيذها تفادياً لـ «اللّعنة»؛ وهي تحويلُ القطاع إلى مستوطناتٍ، وهذا ربّما سرُّ التباين في المواقف ومنطلقات العدوان؛ بين البراغماتيّة الأميركيّة والأيديولوجيّة التوراتيّة، وقد بدأت الرسائلُ الأميركيّةُ ترِدُ إلى القوى المؤثّرة في المنطقة؛ وكلّها تنطوي على محاولات احتواء المواقف والانعطاف ونفي نيّات التصعيد.
ويمكنُ، اليومَ، لأيّ متابعٍ أن يستنتجَ أنّ الإدارةَ الأميركيّة بدأت في البحث عن كيفيّة النزول عن الشجرة، وكذلك إنزالُ «نتنياهو» الذي قفزَ قفزةً حمقاء، وعلق، حيثُ بات نزولُه صعباً.
قد يكونُ علينا أن ننتظرَ، قريباً، مبادرةً من طرفٍ ما للحلّ، تعدُّها أميركا، سرّاً، من تحت الطاولة، وتتظاهرُ بقبولها على مضضٍ في العلن.
لكنْ؛ إن كانَ الأميركيُّ، ومعه «ربيبتُه»، يخططُّ في البدايات للمُساومة على مكاسب تخدمُ الهدفَ الأساس الواسع والبعيد للحرب، كفصلٍ متطوّرٍ في حرب الأقطاب وصراع النفوذ؛ فإنه سيفاوضُ، اليومَ، للاحتفاظ بما كان راهناً، قبل أربعين يوماً، لكنَّ الزمنَ يمضي دوماً إلى الأمام، وليس العكس.