الأغنية التراثية المعاصرة في بلاد الشام.. “شروال جدك” نموذجاً

تشرين- سامر الشغري:

على أعتاب انطلاقة مهرجان الأغنية السورية التراثية الثاني الذي سيفتتح اليوم بإشراف وإعداد الزميل إدريس مراد، سألت نفسي ما هي الأغنية التراثية؟ وهل كل أغنية قديمة هي تراثية؟ وهل من الممكن أن توجد أغنية حديثة وتراثية في آن معاً.

اعتقد أنه من الممكن أن ننتج أغنية جديدة وتراثية، بحيث تكون كلماتها أو لحنها أو طريقة عزفها مستقاة من الماضي أو التراث، وما أغنية (شروال جدك) للفنان طوني حنا إلا مثال على ذلك.

هذه الأغنية التي أطلقها حنا ضمن ألبومه “الضيعة” سنة 1982، من تأليف جوزيف خليل وألحان رفيق حبيقة، اغتنت كلماتها بخمس وثلاثين مفردة تراثية قديمة من أجواء الضيعة والفلاحة وحياة الريف والفلاحين، عرفها أبناء الأرياف في سورية من الغوطة والقلمون والغاب والساحل، واستخدمت في الماضي ببلاد الشام كلها، لأنها تكاد تكون واحدة، ولاسيما في سورية ولبنان.

ولم يأتِ اختيار (الشروال) في عنوان الأغنية عبثاً، لأن ارتداء هذا الزي في الماضي كاد أن يكون إجبارياً، فقد تعامل معه الناس كلباسٍ رسمي وكان من العيب ارتداء غيره، ولقد حدثني الباحث المؤرخ زهير ناجي أن طبيباً من مدينة دوما اسمه محمود الحكيم، درس الطب في خمسينيات القرن الماضي، كان يضطر للبس الشروال فوق البنطال وهو في طريقه للجامعة، وكان يخلعه فور مغادرته المدينة، كي لا ينظر إليه أبناء بلدته باستهجان واستنكار.

ولا تسير أغنية (شروال جدك) ضمن سيرورة واحدة أو قصة متكاملة كما في أعمال الرحابنة لفيروز، إنما جاءت كسرد لأسماء العشرات من أدوات الفلاحة في الريف وأدوات المطبخ في الضيعة ومن دون تسلسل موضوعي، ولكن فكرتها تقوم على أن الحفيد وهو طوني حنا يذكر جده بأدوات توقف استخدامها جراء اختلاف الحياة ودخول الحداثة، فالأغنية تقول في مقطعها الأول: “هاك الود اللي فوق الليوك، مع غمر القمح المفروك، والجفت اللي مانو مدكوك، والخرج وكل العدة”، وهذه مصطلحات ريفية بحتة، ف(الود) وتد خشبي متعدد الاستخدامات، (الليوك) خزانة محفورة في قلب الحائط توضع بها الفرش والوسائد والبطانيات، و(الغمر) وعاء كبير يستخدم في غسيل القمح والبرغل، وعلى هذا المنوال تسير الأغنية.

وتحفل أيضاً (شروال جدك) بمصطلحات لأدوات الحراثة القديمة كالسكة والنير، والمطبخ كالكدنة والطبلية والفوالة وجراب القريشة، وكلمات عامية.. ولكن أصلها فصيح مثل (الساعور) وهو ذكر الماعز بعمر السنة، والتنور وهو نبع الماء في الأرض، ومصطلحات لأدوات قديمة كانت سائدة في الريف السوري ولكن بلفظ مختلف مثل (التكتوكة) وهي ذاتها الكندوج الذي كان يستخدم في قرانا لحفظ الحبوب، و(القبوعة) وتعنى الطاقية التي كانت توضع على الرأس.

وتتحدث الاغنية أيضاً عن أجواء الضيعة وعن التعاون والتآلف بين أبنائها، فالكلاس الذي قام بتبييض بيوت كل أبناء القرية، وغلة الأرض التي كانت توزع على الجميع وتكفيهم، والازدحام الذي كانت تشهده مطحنة القرية لطحن القمح والبرغل والكشك وغيرها.

وفي الأغنية نوستالجيا حارة للماضي وكيف تبدلت أحوال القرية، فشجرة الجوز لم تعد تحمل ثماراً كما في أيام زمان، وتساقطت أوراق التوت في تورية عما حل بالريف خلال العقود القلية الماضية وهجرة أبنائه للمدينة، لتغيب في نهاية الأغنية ذكرى الجد عن القرية وناسها، فلم يعد هنالك بيت واحد يسأل عن الجد.

أسلوب وضع مفردات قديمة في الأغنية استخدمه في زمننا الحالي المطرب علي الديك في عدد من أغانيه، مثل “الحاصودي” التي حققت نجاحاً ملموساً، ولكنه في الأغاني التي تلاها لم يحقق ذات النجاح من “طل الصبح” و”واحسنا”، لأن المفردات جاءت مغرقة في محليتها ولا يفهمها إلا أبناء منطقة بعينها، فيما تغنت (شروال جدك) بمصطلحات يعرفها أبناء حمص كما أبناء بعلبك، والدريكيش كما عكار، ولكنها كلها من روح الماضي الذي غاب ولن يرجع أبداً.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار