ليس ثمةَ شعبٌ بلا حكايةٍ العودةُ إلى صندوق الجدّة إبداعٌ أحياناً..!
تشرين- علي الرّاعي:
تبدو امتداداتُ الحكايات اليوم، في كل ما أبدع أو تمّ إبداعه، ربما لأجل هذا، ثمة من يؤكد أن لاشيء جديداً، أو ليس من إبداع مبتكر، سوى في التعبير، أو الصياغة الجديدة، فهذا الشاعر محمود درويش يصرّح: أعتقد أن حكايا (ألف ليلة وليلة) هي من أكثر الحكايا التي تأثر بها المبدعون والكتّاب شرقاً وغرباً، ونادراً ما تخلص كاتب ما من وطأة هذا التأثر، ولو أحصيت الأعمال التي تأثرت بـ «ألف ليلة وليلة» لكان العدد هائلاً، سواء في الحكايا أو في طريقة سرد هذه الحكايا التي تتناسل من الحكايا الرئيسة، فكانت (ألف ليلة وليلتان) لهاني الراهب، وبعض أعمال واسيني الأعرج، ومما قرأت في هذا المجال رواية «أوبابا كواك» للكاتب الإسباني «جوسيبا إرازو» من إقليم الباسك، الذي يُحيلنا إلى هذه الحكاية، أو الحكايا الليلية، إذ يجب على شهرزاد أن تنال رضا الأمير ليلة بعد ليلة، وأن تبقيه في الوقت نفسه متلهفاً لسماع المزيد.
الحكايا الليلية
البعضُ يرى تشابهاً كبيراً بين الحكايات غرباً وشرقاً.. لأن أطرافاً عدة ساهمت في هذا النبع الكوني المشترك: الحروب والغزوات، التجارة، المغنون، الجوالون، الحكواتية في تنقلاتهم، والمواقع الجغرافية لمنشأ الحكواتية والحكايا- كلها ساهمت في تشابه الحكايا- تذكر أستاذة الدراسات المسرحية في المعهد العالي للفنون المسرحية ميسون علي: إن الأمم ذاتها هي سرديات ومرويّات، إذ لا يوجد شعب – حسب رولان بارت- في الماضي ولا في الحاضر من غير حكاية، فهي حاضرة في الأسطورة، والملحمة، والتاريخ، والمسرح، والفيلم السينمائي، و..اللوحة.. إنها حاضرة أيضاً في كل واجهة عرض زجاجية، وفي محادثاتنا اليومية، فكلنا يسرد على طريقته الحكاية التي تسبق كل تاريخ مدون، هي أسلوب تعبير، يشكلِ السرد أساسه، لأنه يقوم على سرد حادثة فعلية، أو متخيلة، ويُفترض وجود «راوٍ».. وحوادث الحكاية توضع في شرط بعيد زمنياً يرويها الشعب، وتنتقل بين أفراده، والنقل الشفهي يجعلها تبقى في عوالم تفيض بالخيال حتى وإن اصطنع راوي الحكاية أسماء بلدان، ووصف أماكن، ومعالم جغرافية، فهو إنما يفعل هذا للإيهام بالحقيقي.. أما شروطها فهي: الصدق، الغرابة، والمعرفة، وهي شروط قبول لدى المروي له، وبتقديري هذه شروط صنوف الإبداع كلها..!
قبل التدوين
ثمة من يشبّه «الحكواتي» هذا الفنان الشعبي، ويعده أنه كان بمنزلة تلفزيون الحارة، أو مسرح المقهى الذي يبدأ برواية حكاياته بعد غروب الشمس، والحقيقة، هي العكس، فإن «التلفزيون» اليوم هو جدة الأسرة، أو حكواتي العائلة، وهو أيضاً مسرحيّ اليوم، فحكواتي مقاهي أيام زمان، أو الجدة التي تحكي حول موقد النار في الأرياف اللذان كانا يُعيدان الحماس عشرات الليالي لجمهور «السامعين» الذي ينقسم بين فريقين: الأول من أنصارعنترة، والثاني يشجع غريمه عمارة، مع وصلات، أو فواصل من العراضة والمولو ية، ومن طقوس الحكواتي، طاولة فوقها كرسي، وخلفها سجادة.. إنما كان ذلك يمسرح الحكاية، ويشخصها، ويقدم فناً بصرياً صرفاً.
الأديب الراحل عبد السلام العجيلي يجيب فيما إذا كان يغلب لديه متعة الكتابة، أم متعة الكلام بالقول: الكتابة عندي نوع من الحديث، فأنا قد أحدّث الناس عن طريق الورق، وفي كل الأحوال أنا حكواتي، وقبل ذلك كان يسميني سعيد حورانية: حكواتي الرقة.. وعن أهمية الحكاية لديه في بناء عوالم الرواية والقصة، يقول: هناك أسانيد كثيرة للكتابة القصصية، إن هذه طريقتي، ولا ألوم الآخرين إذا لم يأخذوا بها، أكتب القصة التقليدية، مقدمة، وعقدة، ونهاية، ويضيف صاحب الـ«قلوب على الأسلاك» قلت أكثر من مرة، إنني أعدّ الحكاية هي الفن العربي الأصيل..
من جهتها، تذكر الفنانة التشكيلية الإسبانية إيما كولادا اريسفيتيا: أنه يمكن استخدام ما طُرح سابقاً بأساليب جديدة، ولأن المشاعر مختلفة من فنان لآخر.. ومن مبدع لآخر، إذاً هناك عطاءات جديدة، ولحسن الحظ، فإن الإنسان الحر يستطيع أن يعطي بحرية إبداعات جديدة، وفي إسبانيا نقول دائماً «العودة إلى صندوق الجدة» أي وفي كلِّ الأحوال، نحن لم نخترع شيئاً جديداً، لكننا نعبّر بأساليب جديدة، وبمشاعر مختلفة.. وهذا في حدِّ ذاته إبداع، حتى يُخيل لي، أن لا إبداع في الفن، وإنما الإبداع في المجالات العلمية فقط..!!
إبداع الحكايا القديمة برز واضحاً عند الفنان التشكيلي رفيق شرف، المقيم في فرنسا، إذ تزدحم لوحته بشخصيات عنترة وعبلة والهلالي.. يذكر في هذا المجال: استلهام تراثنا الشعبي المحكي والمرسوم، بمعنى صورة البطل الشعبي التي رسمها حرفيون عرب في تونس، والمغرب، وسورية.