عبد الفتاح قلعجي أديب المسرح الأكثر غزارة الذي لم يستهوِ المخرجين

تشرين- سامر الشغري:
إذا كان الانكليز يفخرون بوليام شكسبير لأنه كتب ثمانية وثلاثين مسرحية عبر سنوات عمره الاثنتين والخمسين، فماذا علينا نحن السوريين أن نفعل حيال قامة مسرحية غادرتنا فجر هذا الأحد 16 تموز اسمها عبد الفتاح رواس قلعه جي، والذي لم يتوقف عن شغفه المسرحي رغم مرضه وشيخوخته، وترك لنا قبل أن يرحل تسعين نصاً مسرحياً متنوعاً.
قلعه جي وفي وسط آلامه أصدر مطلع هذا الشهر مجموعة مسرحية جديدة عن الهيئة العامة السورية للكتاب بعنوان “البوابة ” ضمت سبع مسرحيات، وعند قراءتها سنتلمس كيف حضرت فكرة الموت عند المؤلف بصورة ملحة وبرؤى مختلفة، وكأني بالمؤلف حدث نفسه كثيراً في الفترة الأخيرة بهذه الظاهرة الفيزيولوجية مستشعراً دنو أجله، ومقدماً تحليله الفلسفي لها بأنها جدار يفصل بين عالمين.
ولكن رغم هذه النزعة الفلسفية الواضحة في مجموعته الأخيرة فإن قلعه جي لم يتخلَّ في نصوصها عن شغفه بالتاريخ وتوظيفه في اللعبة المسرحية بطريقته هو، كما في مسرحية سلطان إبراهيم عندما دمج بين حكاية هذا المتصوف الذي هجر الملك والحكم ولحق بالزهد وأهله، وحكاية بوذا ذلك الزاهد الفيلسوف.
لقد حافظ قلعه جي في تجربته المسرحية على أسس ثابتة منذ أن بدأ مشواره في الكتابة سنة 1957، من ميله المستمر للتجريب والكتابة في كل الأنواع والدمج فيما بينها، واستحضاره المستمر للتاريخ وحكاياتها وأبطاله، ولكنه نفى في حوار لي معه أنه يكتب المسرحية التاريخية على غرار ما نجده عن ألفريد فرج وعبد الرحمن الشرقاوي، فما الحدث أو الشخص عنده إلّا منصة ينطلق منها في رحلة تجريبية تخترق المألوف وغير العادي، كما نجده في نصوص (هبوط تيمورلنك) و(تشظيات ديك الجن الحمصي) و(سيد الوقت الشهاب السهروردي) و(عرس حلبي وحكايات سفر برلك).
لقد أسس قلعه جي على حدِّ تعبيره مدرسة خاصة فيه قائمة في التجريب على التراث، وموضوعات الواقع والمتخيل ومزيج من الرمز والسير على ضفاف الحلم، والاستفادة القصوى من تقنيات المسرح التعبيري ومسرح الصورة وحتى المسرح الكلاسيكي، فاعتمد على بنية مشهدية مشحونة بالدراما ومزج الواقع بالخيال بالحلم بالأسطورة بالخرافة، ليصب كل ذلك لصالح الفكرة في المسرحية ويصل إلى واقعية سمّاها واقعية عميقة، ولعلّ في هذا المصطلح المبتكر يكمن جوهر تجربته.
في مسرح قلعه جي دمج غريب بين شخوص التاريخ و الواقع، لا ترتكز على منهجية معينة بقدر ما ترتكز على شغفه بالتجريب وفتح الأبواب مشرّعة أمام خيال المؤلف ليبني الواقع الذي يريد، ونجده حوّل قسطاً وافراً من مسرحياته إلى محاكمات عادلة اقتص عبرها من شخصيات تاريخية ارتكبت المجازر وشنت الحروب من دون أن تحاسب كما في (هبوط تيمورلنك)، وكأني قلعه جي بهذه المسرحية يشن هجوماً عنيفاً ضد الطغاة في التاريخ الذي أرهقوا كاهل الشعوب بالحروب، ومسرحية ليلة الحجاج الأخيرة التي أيضاً حاكم فيها هذا الحاكم الدموي.
وكان للتيار الديني المتطرف نصيبه من هجوم قلعه جي، فمن خلال نصيه عن المتصوفين اللذين أعدما في مدينة حلب السهروردي والنسيمي الذي كان بالمناسبة أول من كتب عنه، فعرض فلسفتهما في مواجهة فتاوى الدم عند بعض فقهاء الجهل المتشددين.
وآمن قلعجي أن تطوير المسرح العربي يبدأ من شق التجريب على التراث الأدبي والشعبي، ومن حداثة متصلة بالجذور لها هوية وشخصية متصلة فينا، فتوغل في التجريب المستند على تراث وطلع بمصطلحات فريدة من نوعها مثل مسرح المسجد وهو المسرح القائم على أذكار المولوية.
وكان قلعه جي في مسرحه نصيراً متطرفاً للإنسان فآمن به ودافع عن قضاياه وتبنّى قضايا المظلومين عبر التاريخ كالحلاج والشنفرى ومجنون ليلى كما في مسرحيته /المركب والمعبر/، التي دمج فيها بين شخصيات تاريخية وشخوص من الواقع بدافع الربط بين الماضي والحاضر.
ومن آراء قلعه جي الخاصة والتي باح لي ببعضها خلال حواري معه رفضه لفكرة وجود أدب مسرحي بمعنى؛ نصوص تكتب للقراءة، رغم أنه أديب مسرحي بامتياز وكثير من نصوصه ظلت حبيسة الورق ولم تجد طريقها للخشبة.
ولعلّ الأيام والأجيال القادمة ستنصف هذا الكاتب الكبير أكثر منا، فرغم غزارة إنتاجه المسرحي لم يقدم منها إلّا القليل، على خشبات سورية وعربية منها (المسافر) و(فنتازيا الجنون) و(طفل زائد عن الحاجة) و(هل قتلتَ أحداً) و(عبور) و(اللحاد)، ولقد أدرك هو ظاهرة العزوف عن تقديم نصوصه هو وغيره من كتّاب المسرح، ووصف تفضيل المخرجين المسرحيين الحاليين للنص المترجم أو المعد عنه بأنه عقدة الأجنبي التي تلازم بعض المشتغلين بهذا الفن، ولعلّ رحيله عنا يحلحل من هذه العقدة ويذكر هؤلاء بنتاج كاتب عظيم كان الأغزر سورياً وعربياً والأكثر شغفاً بالخشبة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار