«محمد رضا عبيد» والتغريبةُ السوريّة في رفّة حلمٍ
تشرين- راوية زاهر:
«لستُ أدري..
من فضّ بكارة الأماني؟؟
من مزّق رداء الوطن؟
وترانيم القصائد.
منْ شوّه مرآة أمي؟
ونظارات أبي..!
من عكّر صفو بردى
ورشق الغيم على جبين قاسيون؟»
(ليته حلم).. مجموعة شعرية للشاعر السوري محمد رضا عبيد، صادرة عن دار بعل في دمشق.. كتاب ضمّ بين ظهرانيه اثنين وأربعين نصاً شعرياً تبوأته الفجيعة، ونامت على زنديه أوجاع الرحيل وتراتيل الغياب.. عناوين تصدرت النصوص لتوقعك سهواً في شهقة الانخطاف والاستسلام للمواجع والذكريات وسكرات الموت التي فُرضت على من طواهم الغياب وسرقتهم يد الردى والحروب.
(ليتهُ حلم).. عنوان تقليدي للكتاب، وقد انتشل من أحد عناوين النصوص، ليتصدر غلافها، فالعنوان هوالعتبة النصية الأولى التي يُفترض علينا تخطيها، فهو يشي برغبة الشاعر أن تكون كل العذابات التي حملتها له الأيام من فقد ورحيل ماضية إلى غير رجعة وأشبه برفة عين على مبدأ « تنذكر وما تنعاد».. ففي ومضة من عمق واقع مرّ أودى بحياة ابنه شهيداً على مدارج الوطن تختصر لنا حجم الحنين والأسى فقال:
«طبع آخر قبلة على جبين أمه
لم تزل رائحته..
معتّقة في شرفات صدرها..
كل حلمٍ لم يزل هنا
كل تنهيدة.»
فعلى وقع الحدس التراجيدي، تنقّلْنا بخُطا وئيدة بين نصوص الكتاب، ليطالعنا الشاعر بخطابٍ ذاتيّ بحتٍ يقوم على التنافر بين الذات والذات في محاولة لرسم اللحظة الشعورية بأبسط ما يمكن من التعبير مع فائض الشعور بالذعر والشتات والحنين والألم، وكل هذا أفضى إلى حالة من الاستشعار الكبير بالانهيار، وقد بدت النصوص أكثر فجائعية ترافقها السمة التخيلية التصويرية، كما انعكس الحدس التراجيدي نصيّاً عبر الصورة الفنية واللغة الشعرية..
«قلبٌ يبحثُ عنك
أنت..
هل شربتَ نبيذ النسيان؟!
أم ذاكرتِك مِنْ ثمَل؟!
وهل حانوتُ الهوى استهواكِ؟!
إذاً.. عانقي نخب أحزاني
برموشه المدببة..
غرز الفجر أنيابه..
يلثم بقايا شفتي.»
وقد تبّدتْ قسوة الفجيعة التي أفرد لها الشاعر سطوراً ونصوصاً في امتدادها على مساحة النّص، ولا يكاد نص يتحرك أويتنفس خارجها.. فمن البداية حتى الخاتمة نشهد متواليات تراجيدية تنكشف معها أبعاد الفجيعة على مختلف المستويات.
«ما بين زفير وشهيق
تلمحُ بقايا ظلّك
لم تعد أظافرها قادرةً
على مقاومة مخالب النوى
كبرياؤها يجعلك تبتسم
وأنت على صقيع ساخن.»
وقد ارتبطت قيمة التراجيدي بالسياسي من خلال توصيف حالة البلاد والعباد والفقد والألم في الحرب وما بعدها.. والجدير ذكره هو سيطرة وتربع الحدس العذابي على كامل التجربة الشعرية في الكتاب سواء فقد الابن أو الحبيبة والأرض والموطن.. وقد تميّز هذا الحدس العذابي الذي عجّت به النصوص بالدرامية، وكذلك تبيّن أنه ذات بعد انسحابي من الواقع، وليس فيه مثلٌ أعلى واضح، وقد تعززت قيمة العذابي بالاغتراب والعزلة أحياناً.
كما طالعتنا قصص الحب تلك التي لم يكتب لأيّ منها البقاء، وكأن هذا الكتاب مصابٌ بلعنة الفراق.
بينما الخطاب الثقافي انتقل من المواجهة والصدام والانسحاب والانكفاء، وقد تجلّى ذلك في نصوص (لست أنا)، (لن أخبر أحداً) ، و(إلى متى؟).. وبدت كذلك قيمة التراجيدي بأنها ذات طبيعة معقدة، تعزّز الشعور بالانتماء عبر الفجيعة العامة، إذ تتراوح بين الشعور بالقوة والشعور بالضعف (ممنوع الاقتراب).. كذلك يسيطر الشكل العذابي – النفسي على النصوص ذات الصلة بالمرأة الغائبة أو تلك المتشظية على جدارات الذاكرة.
أما اللغة؛ فجاءت بسيطة حد السهولة، واقعية بحتاً، تميل إلى السرد، ويعج المعجم اللغوي بمفردات الحزن والتراجيديا، وتطفو على السطح من خلال كثرتها وتكرارها (الدموع، الفراق، الرحيل، الغياب، ألم، كفن).
وهذا لا يلغي حضور لغة المجاز بقوة والتحليق به عالياً في عالم لغويّ انزياحيّ مميّز.. وبدت الصور متجلية في عمق القصيدة ناقلة الحالة الشعورية بكامل حضورها من أمثلة: الاستعارات المكنية:
(ركل البحر قواربه،
النغمات تحبو
قبضة الريح، فم اللهب، أظافر أمنياتي، يتثاءب الصباح..).. وهناك البليغ الإضافي: (عفن الرحيل، عتمة الحيرة، صهوة الوقت، ركام الأماني، نوارس الحروف، معاول البعد ). كما بدا التناص مخفياً خجول الحضور، وتجلى في (اخلع نعليك).. إذا أعادنا إلى كلام مقدس (اخلع نعليك يا موسى).
وكان لابدّ من الختام بنصٍ يعود إلى العنوان (ليته حلم):
في مرفأ عينيك
تاهتْ حروف أبجديّتي..
وفي شطآنها اغتسلت كلماتُ قصيدتي
آهاتي مسافرةٌ
وأنت عنوانُها
نظراتي مشرئبة
حيث قلوب مكلومةٌ
أقسمتُ ألاّ أراك
أنفاسك أحرقت كلّ المساءات.
نشير أخيراً إلى أن الكتاب سيتمّ حفل توقيعه يوم السبت القادم ٨-٧-٢٠٢٣م في المركز الثقافي العربي في اللاذقية – دار الأسد الساعة الثانية عشرة ظهراً، بإشراف الملتقى السوري للثقافة بإدارة الشاعرة وديعة درويش.