الإبداع الذي لا يملُّ التجديد.. أسئلة في ماهية الشعر في يومه العالمي

تشرين- علي الرّاعي:
مخاتلة الشعر؛ إنه ربما يأتيك بملامح مختلفة، بمعنى قد يفيضُ عن القصيدة شكلاً، لتُقابله بتفتح برعم ورد، أو بندى صبحٍ على الأوراق، وحتى ببزوغٍ صبحٍ جديد.. كما أن الشعر قد يتسلل إلى حوامل رفقائه، كأن يُزاحم الرواية أو القصة القصيرة، وحتى اللوحة التشكيلية، والفيلم السينمائي لتطغى الشعرية ما شاء لها المجازُ من الطغيان الجميل.. فاليوم لا معنى لرواية لا تلبسُ فساتين القصيدة، ولا معنى لقصة قصيرة تخلعُ تنانير الشعر، لا معنى للوحة تشكيلية لا تُعمّرُ ألوانها بغنائية شعرية، أو صورة شعرية واسعة يفيضُ بها مشهدٌ سينمائي..
الشعرُ الذي بدأ أقرب لقصيدة النثر اليوم، في جذره السوري الهلنستي العتيق، ثم موزناً على إيقاع ستة عشر من البحور عندما سادت العربية ذات حين، وقبل أن يصل إلى مرافئه الأخيرة في هذا الشكل الشعري، تُسارعُ القصيدة لتخلع عنها عباءتها التقليدية، بعباءةِ التفعيلة، التي سرعان ما تخلعها هي الأخرى لتلبس ما شاءت لها عبقرية تصاميم الشعراء من حرِّ الشعر بأثوابِ قصيدة النثر، من هنا، يستحيل لسفن الشعر أن تصل إلى مرافئ أخيرة، فدائماً ثمة موانئ جديدة، يُمكنُ لمراكبها أن تُبحر إليها..
هنا؛ وفي عيد الشعر العالمي، سنقرأ رأيين لشاعرين لم يكتفيا بنثر الشعر من خلال القصيدة فحسب، بل زرعا الكثير من بذور القصيدة في الرواية والقصة..

ماهية الشعر
يقول الشاعر والروائي العراقي أسعد الجبوري: النَصِّ الشعري غير الشبيه بالرِّمال المتحركة، نصٌّ وديعٌ وهادئ ومُمِلّ، سرعان ما يأخذُ طريقهُ من المطبعة إلى المقبرة.. فكلّ كتابةٍ بلا حرث بالتربة، بلا قرابين في مجاري العقل، إنما هي كتابة وهَميّة تنتمي لطواحين الهواء.
الشِعْرُ أن تضع جسدكَ بكلّ ثقله وجنونه وجرائمه الحسيّة والناطقة والصامتة والمُتهوَّرة بتربةِ اللغةِ.. فالحَرَكَةُ والتَحْرِيكُ والحَرَاك هو مُحرِّكُ الكتابة الماورائية للمعاني العميقة بالأوكسجين الحرّ..
ولأنّ الأمرُ كذلك؛ فإنّ الجبوري يرى نفسه؛ بلا مرجعية شعرية محدّدة، لأنه كسر أقفالَ اللغة التي تشردتُ خارج الأقفاص والمعاجم والمدارس والتكيات والكهوف والأساليب النمطية التي عادةً ما تقتل النص قبل ولادته حتى.. ومن هنا فبرأيه إنّ: الشاطر من النقاد أو من القراء، أن يَدلّه على شاعر يُشبههُ في الكتابةِ أو يشبهه في نصوصه.. ومن هنا أيضاً استطاع أن يكون سيداً في كتاباته وفي عُزلته مهما حاربه الهامشيون في الصحف والمجلات وفي الجوائز وفي المهرجانات والمؤسسات ودور النشر والمطابع وفي كل مكان على هذه الأرض الفاسدة بالأمية والظلام والطفيليين والمترجمين والذباب الثقافي ممن باتوا يُسمون بالمستشارين على الكراسيّ الأدبية على ما يقول.. ويُضيف: لو كنتُ مطيعاً لفكرة تدمير سورية ضمن برامج ما سًمي بـ”الربيع العربي” ولم أكتب رواية “ثعابين الأرشيف” عن الحرب الكونية ضدها، لكنت اسماً على رأس قائمة المرشحين للجوائز العربية كلها..
أما عن مشروعه في محاورة شعراء راحلون منذ سنين بعيدة، من خلال أبحاثه النقدية التي جاءت تحت عنوان “بريد السماء الافتراضي”؛ فيقول: أمام كلّ هذا الحصار الأرضي، جاءت فكرة التحاكي السماوي الحواري مع الشعراء الموتى، فكانت الضربة القاضية ببريد السماء الافتراضي لفك العُزلة والتفوق بالشعر الذي يرفض التواضع.

حراس الأشواق
أما الشاعر والروائي السوري حسين عبد الكريم؛ فيرى أن الشعر ذهابٌ هائل في وجع اللغة وتفتحات برعم الجنون اللغوي.. ويرى أيضاً أنّ المنظمات العالمية، والهيئات الكونية، أو المحلية لا تحمي الشعر ولا تعزز بروق القصائد، فالشعرُ يتعزز ببروق التاملات البليغة.. التأملات التي أعناقها طويلة كدروبِ الجبال، وتشيرُ إلى ذاتها بذاتها، ولا تحتاجُ تعريفات من خارج دلالاتها.. الشعرالعظيم – بتقديره – مخلوقٌ بريٌّ كالغابات المزدهرة، لكن المطر صديق اليخضور، والشمس صديقةٌ أيضاً.. من هنا فالشاعر يكتب ليضيء جرودَ ليل الوجدان بالأسئلة، ويكتبُ ليصيرَ أجملَ من الهزائم الصغيرة والكبيرة، ويكتب ليتخلص من رعب اللغة المتوحشة، ويكتبُ الشاعر أجملَ ما يكتب للحياة..
إذ تؤكد القصيدة أن الحياة أجمل ما في الحياة.. وسرديات القصائد ليست قصيرة ولا تقبل بقفصٍ ذهبي، أو غير ذهبي لعواصف الأشواق.. والشعراءُ حراس الأشواق، ونواطير العاصفة.. والأنثى الباذخة قصيدةُ كلِّ الأوقات، والحزنُ النبيل قصيدة، والحبُّ قصيدة، والحنينُ قصيدة، والوجدُ قصيدة، وهل بوسع الإنسان أن يحيا من دون أنوثةٍ باذخة، وحب وأشواق ووجدان؟! وبرأيه مهما تبوأ الخرابُ عرشَ الزمن؛ يبقى الشعر يدون البقاء.. وأظننا لا نقوى على الامنيات العاتية إلا بالقصائد التي تكافئ نفسها بحواس.. وحواس الشعر كحواس الينابيع تأويلها البهجة الكونية والكروم.

وأخيراً، أختم بنص شعري ل(بلتيس) الشاعرة السورية العتيقة من السادس قبل الميلاد:
في الوطن
الذي تنفجر فيه الينابيع من البحر،
وتكون صفائح الصخر
مجرى الأنهار ..
في هذا الوطن
أنا بيلتيس،
رأت عيناي النور
كانت أمي فينيقية وأبي هيلينياً
لقنتني أمي أغاني (جبيل) الكئيبة،
كالسحر الأول..
عبدت عشتار في قبرص
غنيت حبي كما هو،
بلى،
قضيت عمري سعيدة
فيا ابن السبيل:
قص ذلك على ابنتك
لا تضحي لأجلي بعنزتك السوداء
ولكن اعتصر ثدييها وخله،
يدفق هادئاً على قبري..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار