محطاتٌ من مسيرة موفّق بهجت في عيد ميلاده.. الوفيّ للأغنية السوريّة والعاشق للوطن

تشرين-سامر الشغري:
لم تجرِ العادة لدينا على الاحتفال بأعياد ميلاد مبدعينا الأحياء، فلم نلتقط هذا التقليد الجميل من لبنان أو مصر عندما يحيون عيد ميلاد فيروز أو عادل إمام، مع أن المبدع يهمه أكثر أن نحتفل به في حياته وأمام ناظريه.
وما المانع إذاً أن نحتفل بعيد ميلاد فنان حمل لواء الأغنية السورية المعاصرة ونشرها في عموم أقطار العرب، وهو النجم موفق بهجت، صاحب الهوية الفنية الفريدة وعشرات الأعمال التي لانزال نسمعها ونطرب لها بصوت مطربها أو من غناها بعده.
موفق الذي ولد في مدينة دمشق يوم 17 آذار من سنة 1938 لأسرة غنية، وعاش في طفولته وشبابه حياة الرفاه، أراد والده «الحاج بهجت» أن يصبح ابنه طبيباً أو مهندساً أو موظفاً مرموقاً، ولكن الفن كان الشغل الشاغل للشاب موفق والشغف بالغناء ومتابعة أعمال نجوم الطرب، كان في المقام الأول عنده، ولكنه في الوقت نفسه كان يفكر في تقديم شيءٍ خاص به لا يشبه أحداً.
قبل أن يتجه موفق للغناء سعى لدخول عالم إخراج برامج المنوعات، ولكن هذه المحاولة تعثرت عندما لم يوافق المخرج الراحل محمد شاهين على طلبه، لكن ذلك لم يؤثر في تواصله مع الفنانين، فبنى علاقات متينة مع الراحلين المطرب الكبير فهد بلان، والموسيقار عبد الفتاح سكر، والفنان الشامل شاكر بريخان، وطالما استضافهم في منزله ضمن جلسات تجمع أجواء السهر والموسيقا.
وفي إحدى هذه الجلسات بينما كان فهد يشدو للحاضرين أغنيته الجديدة (بنت العرب) للشاعر عمر حلبي، طلب منه موفق أن يجعل صوته أكثر طلاوة وهو يقول عبارة «مليان حنية»، فأجابه فهد بألا يتدخل في عمله، وعندها ردَّ موفق بهدوء بأنه سوف يجعله يرى كيف يكون الغناء.. وكانت البداية مع أغنية (عشقت في الأندلسية) من خلال حفل قدمه فيه المخرج الراحل خلدون المالح عام 1965.
ومن الضروري التوقف عند هذه الأغنية، ليس لأنها فحسب أولى أعمال النجم موفق، بل لأن هذ الأغنية التي استقاها من الفلكلور الجزائري وألحان سليم الهلالي، وأعاد تقديمها بكلماتٍ جديدة للشاعر مصطفى بدوي، وألحان سمير مجدي، تشي بالاتجاه الذي سلكه طوال رحلته مع الفن من خلال النهل من التراثين السوري والعربي، فكان يكتفي بأخذ جملة واحدة من أغنية قديمة بما يتوافق مع المعايير الدولية، ثم يبني عليها عملاً جديداً كما فعل مع (يا صبحة) التي استقاها من التراث التونسي، و(مندل دلوني) من العراقي و(عالسيا وعالأوف مشعل وبياعة الرمان) من التراث السوري.
سافر موفق بهجت إلى لبنان لمواصلة رحلته مع الفن حتى مطلع السبعينيات، ومن هناك عزم على الانتقال إلى مصر وتقديم فنه على مسارحها، إذ ساعده ذكاؤه ليعرف أنه لن يستطيع مجاراة عمالقة الغناء من عبد الوهاب، وأم كلثوم، وفريد، وعبد الحليم.. غير أنه اعتمد في إذاعة (صوت العرب) كمطرب عربي مقيم، وكان أحد نجوم حفلات (أضواء المدينة) التي كانت تشهدها القاهرة شهرياً وقدّم أغاني سورية وفق أسلوب الخاص الذي صممه لنفسه، أما أغانيه المصرية فكانت قليلة جداً، وغير ناجحة في رأيه.
لقد ثبّت موفق أقدامه في زمن العمالقة مستعيناً بوسامته وبصوته الدافئ وبذكائه الفني وبحيويته وتدفقه في الغناء ولاسيما على المسرح، ورسخ هوية الأغنية السورية عربياً وظلّ أميناً لها، ولا يعرف الكثيرون أن موفق ملحن الكثير من أغانيه، من (العين الكحلاوية وكان الله في عوني وعونك ويمكن على بالو حبيبي وليه الحب ملامة)، إضافة لتعاونه مع كبار الملحنين السوريين والعرب في أغنياته، أمثال (يا صبحة) لعبد الفتاح سكر، و(شيلي) لسعيد قطب و(أصبح علينا الصبح يا زينة) لزهير عيساوي، و(عالسيا) لمطيع المصري، و(جايتني مخباية) لحسام تحسين بك، و(قالوا عنك درويشة) لفيلمون وهبي، و(لوين) لإيلي شويري.
وفي مطلع السبعينيات عاد موفق بهجت إلى أرض الوطن من رحلته الطويلة، فقد شعر كفنان أن سورية التي كانت تشهد مرحلة بناء ونهوض شامل بقيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد تحتاج أن يكون إلى جانبها، فكرس صوته وفنه لخدمة هذه المرحلة وقدم عشرات الأغاني الوطنية نذكر منها: (الشمس طلعت، ورعاك الله) لشاكر بريخان، و(عزي وبلادي سورية) لمطيع المصري والأخيرة استقاها من أهزوجة شعبية كانت تردد في المظاهرات المناوئة للاحتلال الفرنسي وفق الباحث الموسيقي أحمد بوبس.

أما في مجال السينما التي قدّم لها أربعة أفلام في لبنان ومصر هي: (العسل المر والدلوعة وكلنا فدائيون والسلم الخلفي) فقد وصفها موفق نفسه بالفاشلة وبالتجارية، لأن منتجيها عدّوا أن وجود فنان مشهور يكفي لصناعة فيلم جيد، فلم تكن نصوص هذه الأعمال مناسبة، وكان هاجسه تقديم فيلم استعراضي يقوم على حدوتة. وبعد كل هذه المحطات يصف الفنان موفق نفسه وتجربته وفنه وهو في الثمانينيات من العمر، بأنه إنسان سوري من الطراز الأول في الفن وفي عشق الوطن، ويكفيه أنه باق في قلوب الناس وذكرياتهم رغم تغييبه عن دائرة الضوء مع نظرائه من الجيل القديم، وامتناع الشركات عن إنتاج أعمال لهم، لأن الفنان الذي أحب وطنه وأبناءه لن يتخلى عنهم، ويتطلع معهم لمستقبل أجمل، وموفق الذي ولد مبتسماً سيظل دائماً صانعاً للبهجة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار