تجد في سجلّ تعريف الكاتب أنه باحث ومترجم ومدرّس وصحفيّ وكتب روايةً أو مجموعةً قصصية، فتغلب عليه صفة «أديب» وروائيّ وتكون روايته البيتَ الذي يؤمّه القراء أكثر مما كتبه في كل الفنون، فللرواية ميزاتُها التي تجعل لكاتبها مسالكَ مفتوحة إلى «الجموع» ربما بسبب «الحكاية» التي لا يفلتُ خيطُها ويضيع في الفكر «المجرّد» وتناولِ قضايا سياسية أو إيديولوجية أو تربويّة أو فلسفية شائكة، وكثيرٌ من الكتّاب يتخطّون السياج ويذهبون إلى الرواية أو القصة كأنها استراحةُ من أضناه «البحث» وعلّقه في جدلٍ يحتاج إلى اطلاع وحجج وجدلٍ ومعلومات موثّقة ودحضٍ لفكر آخر!
في تجربة مقاربة هؤلاء الروائيين المقلّين الذين يتخطون «السياج»، كانت الخيبة تعتريني من بعضهم لأن الرواية مكتملة، أما الآراء في البحث والدراسات والرؤية فهي متخلفة عن حقائق عصر الكاتب ومجانبةٌ للتنوير، وقد نجد هذه الحقيقة لدى كتّاب عرب وأجانب، يبدعون خارج «السياج» ويتركون وراءه في الأبحاث والدراسات ضيقَ الأفق أو العنصرية أو مسايرةَ دور النشر أو خدمة السلطة، وقلة منهم يحافظون على الجوهر خارج السياج وداخله، كما فعل الكاتب السوري «صدقي إسماعيل» صاحب مجموعة «الله والفقر» ورواية «العصاة» بعد أن قدّم دراسةً مطوّلة عن الشاعر الفرنسيّ «رامبو» وترجم «الإعصار» عن «بوشكين» ودخل عميقاً في دراسة الحركة النقابية في تونس بكتابه عن «محمد علي القابسي» مؤسس النقابات وزاول هو بنفسه العمل النقابي، إذ كان من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب في دمشق ثم رئيساً له ومديراً لتحرير مجلة «الموقف الأدبي» الشهرية التي يصدرها الاتحاد، والوقفة أمام أعماله الأدبية لها نقادها، أما ما يسترعي الانتباه فهو كتابه «العرب وتجربة المأساة» وهنا يتجلى جوهر الكاتب الذي من صفاته البدهية أن يكون مثقفاً وعارفاً ومطّلعاً بأناة على تاريخه القومي لينسُل منه خيطاً ويتأمله (هو هنا المأساة) وأستبعد أن إمساكه هذا الخيط كان بسبب تهجيره من لواء اسكندرون المحتل الذي أبصر النور فيه ودرج في مدارسه طفلاً ثم اقتُلع منه فتى وشاباً يتنقل في مدن وطنه طلباً للعلم، فواضحٌ أن «صدقي» ابن فكر قومي عروبي وابن مرحلة توقّد فيها هذا الفكر في مسقط رأسه على يد مُجايِله «زكي الأرسوزي» وواضح أنه لا يجزي هذا الانتماء حين يتناول تجربة «المأساة» عند العرب كثقافة وتعامل مع الحياة!
سيجد القارئ سلاسة في هذا الكتاب الذي صدر عام 1963 لأنه يتحدث عن تجربته الشخصية (أعني تجربة القارئ) ويتلمس جذوراً ويعي أسباباً تقول له: لستَ من هواة المأساة والهاربين إليها بحثاً عن ذرائع تعفيك من الفعل. تعال لأريك الأسباب الموضوعية لذلك ولنقرأ معاً الفلسفة التي أنتجها الواقع من صراعات تاريخية واستلاب وغزو فكري. ويتبصر «صدقي» الكثير من المصطلحات التي نستخدمها ويكشف المموّه تحت غزارة الكلمات وهشاشة الشعارات، لنعرف مأساتنا الحقيقية ونستيقظ لمعالجتها!
نهلة سوسو
124 المشاركات
قد يعجبك ايضا