هكذا فضحت واشنطن نفسها..
تشرين – د. رحيم هادي الشمخي:
حتى الأمس القريب، كانت واشنطن مطمئنة إلى مسألة أن التقارب السوري- التركي دونه عقبات مستحيلة الحل، تماماً بقدر اطمئنانها إلى أن تنظيم دا*ع*ش الإر*ه*ابي سيبقى ورقتها الرابحة دائماً بمواجهة سورية (والعراق).
كانت واشنطن مطمئنة إلى أن الاستدارة التي ينفذها النظام التركي، باتجاه استعادة علاقاته مع الدول العربية، لن تكتمل لأنها ستقف على أبواب دمشق، وتالياً فإن كل ما حققه على مستوى هذه الاستدارة قيمته صفر.
نسيت واشنطن أهم قواعد السياسة حيث «لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة» وتجاهلت التحذيرات التي كان يطلقها النظام التركي حيال ازدراء واشنطن للمصالح التركية في المنطقة، وفي سورية تحديداً، وبما بات يشكل تهديداً لأمنها القومي واستقرارها الداخلي.
لقد جمعت تركيا ما يكفي من أوراق رابحة خلال عام مضى، أهمها العلاقة مع روسيا، عدا عن عدة تطورات إقليمية- دولية صبت في مجملها في مصلحتها، وبات «الانقلاب» على الازدراء الأميركي ممكناً.. والبداية من سورية.
تركيا طلبت وساطة روسيا وألحت في ذلك، لتبدأ خطوات التقارب، وتتخذ مساراً متسارعاً وبصورة صدمت واشنطن كما يبدو وأربكتها، ومن حيث لم تحتسب لردة فعلها، فضحت نفسها وكشف العلاقة الوثيقة بينها وبين د*ا*عش من خلال التهديد بإطلاق موجة إر*هاب*ية جديدة على يد د*ا*عش. وحتى لو افترضنا أن لا علاقة بينهما وأن د*اع*ش ليس صنيعة أميركية، يكفي أن تعلن واشنطن أنها لن تحرك ساكناً عندما يزحف د*ا*عش مجدداً في سورية والعراق، ليجدد إر*ها*به وجرائمه.. يكفي ذلك حتى تكون الولايات المتحدة في موضع الإدانة والمسؤولية، لأن هذا الإعلان هو بمنزلة ضوء أخضر لدا*ع*ش، وبما يجعلها شريكة في إر*ها*به.
هكذا فضحت الولايات المتحدة نفسها، ومن دون مقابل. التهديد لم ينفع، ولم يصدر رد فعل من الأطراف المعنية بالتهديد، سورية- تركيا- روسيا، من دون أن يعني ذلك أنها لا تأخذه على مجمل الجد. بل هي تفعل، وتتحضر وتتجهز، فإذا ما دخل التهديد دائرة التنفيذ فإن التعامل مع إر*ه*اب دا*عش سيكون مختلفاً وهذا ما تدركه الولايات المتحدة جيداً، ومع ذلك هي تراهن على إرهاب د*ا*عش لخلق أكبر قدر ممكن من الفوضى ومن حالة اللاستقرار الميداني ولأطول وقت ممكن.
لا أحد ينكر أن الولايات المتحدة حققت نجاحاً متواصلاً حتى الآن في مسألة استخدام التنظيمات الإر*ها*ب*ية لتحقيق أطماعها وأجنداتها الاستعمارية، منذ سبعينيات القرن الماضي (مع تنظيم القا*ع*دة) حتى بداية هذه الألفية (مع تنظيم دا*عش).. مع ذلك تغيب عنها عدة نقاط مهمة عندما تهدد بورقة د*ا*عش وعندما تعلن أنها ستسمح لإر*ها*به بأن يمر مجدداً:
أولاً، ما بعد التقارب السوري- التركي لن يكون كما قبله. ستتحول مسألة إنهاء الاحتلال الأميركي وإخراجه من سورية إلى هدف مشترك يجمع سورية وتركيا وروسيا (ومعها إيران والعراق بطبيعة الحال). نحن لا نقول هنا إن تركيا أو روسيا ستدخل في مواجهة مباشرة مع قوات الاحتلال الأميركية، وهي فعلياً لن تدخل، ولا تحتاج إلى ذلك، وليس مطلوباً منها ذلك. يكفي هنا العمل على تهيئة الظروف الميدانية ليكون الجيش العربي السوري قادراً على حسم المعركة.
تنسحب تركيا بقواتها وتسلم المناطق التي تحتلها للدولة السورية، وتوقف دعمها للفصائل المسلحة، وتضبط الحدود لتتوقف حركة المال والسلاح والمسلحين عبرها (وهذه استحقاقات مطلوبة سورياً وهي في صلب مسار التقارب).. وبعدها فإن الجيش العربي السوري كفيل بالقضاء على كل إر*ها*بي واجتثاث د*اع*ش من جذروه.
ثانياً، عندما أصرت الولايات المتحدة حتى اللحظة الأخيرة على حصر جميع أوراقها في «د*ا*عش» و«ق*س*د» فهي بذلك قطعت على نفسها طريق الاستدارة مجدداً باتجاه تركيا.
أي عرض أميركي اليوم ربما لن ينفع مع تركيا التي اقتنعت أخيراً أن أمنها ومصالحها تتحقق مع روسيا ومع دول المنطقة وعلى رأسها سورية. هذا عدا عن أن تركيا لديها تجارب مؤلمة فيما يخص العروض الأميركية حتى انتفت الثقة بها كلياً.
بكل الأحوال عندما تخسر الولايات المتحدة تركيا فهذا يعني أن أطماعها في سورية والعراق ومشروعها في المنطقة بشكل عام، قد أصيب في مقتل.
ثالثاً، قد يبدو أن كل شيء حالياً يدور حول تركيا واستدارتها، ولكن المسألة أوسع وأبعد مدى، سورية وحلفاؤها على مدى العقدين الماضيين طوروا إستراتيجيات مواجهة أكثر فاعلية، وعلى قاعدة أن مواجهة الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون من خلال كل دولة بشكل منفرد. لا بدّ من توحيد الجهود ليس فقط سياسياً، بل ميدانياً أيضاً مادامت أميركا موجودة كقوة احتلال على الأرض.. وفي حال انضمت تركيا إلى هذه الجهود فإن أميركا ستكون مجبرة على إعلان الانسحاب، ليس من سورية فقط، بل من العراق أيضاً، هذا أمر مهم لأنها إذا ما بقيت في العراق، فإن خطرها سيبقى قائماً، ولن يكون بالإمكان قطع ذراعها الداعشية. هذا أمر مهم ولا يقلل منه أن واشنطن تعنّون تواجدها في العراق تحت مسمى «استشاري» وهي إن كانت تهدد بإحياء د*ا*عش في سورية فهي ستحييه أيضاً في العراق لإكسابه الزخم الميداني الإر*ها*بي المطلوب أميركياً في المرحلة المقبلة إذا ما وصل التقارب السوري- التركي إلى «خواتيمه السعيدة».
كاتب من العراق
أقرأ أيضاً:
تحليل موثّق للأحداث الجارية في سورية.. الغرب بلسانه: ندعم الإر*ه*اب و«د*ا*عش» إحدى أدواتنا