ميركل تنبش في «الصندوق الأسود» من جديد

عبد المنعم علي عيسى:
أواخر شهر أيلول المنصرم خرجت المستشارة الألمانية السابقة انجيلا ميركل بتصريح كان أقل ما يقال فيه إنه مفاجئ قياساً بالسياسات التي اتبعتها على مدار الأعوام الستة عشر التي تربعت فيها على منصبها آنف الذكر، وفي حينها قالت ميركل التي كانت تلقي خطاباً بمناسبة ذكرى مرور 1100 عام على تأسيس مدينة «غوسلار» الألمانية : «من الضروري مواصلة العمل على خلق هيكل أمني أوروبي مشترك» ثم أضافت أن ذلك يجب أن «يتم بمشاركة روسيا» قبيل أن تذهب في خواتيم خطابها ذاك نحو تقديم نصائحها للأوروبيين التي نصت على وجوب” الانفصال عن الولايات المتحدة، والتوقيع على اتفاقية شراكة مع روسيا”.
لربما كان أكثر ما يفسر تصريحات ميركل تلك هو أنها كانت في لحظتها تلك مدركة لاستحالة العودة إلى منصبها الذي غادرته العام 2021، والاستحالة هنا تمنح القائم بالفعل تحرراً من «القيود» التي يفرضها عادة المنصب أو الآمال في إمكانية استعادته، ولذا فإن التصريحات جاءت لتعطي «خلاصة التجربة» في سياق لربما يصح عدّه بداية لكتابة المذكرات التي كثيراً ما يلجأ إليها القادة أو الزعماء، خصوصاً منهم أولئك الذين تحتوي سيرهم الذاتية على مفترقات أو أحداث «شائقة» تغري دوُر النشر نظراً للمكاسب المتأتية منها والتي تضاهي في كثير من الأحيان نظيرتها عند المفكرين أو المبدعين في مجال الروايات، خصوصاً أن المستشارة كانت شاهداً على أحداث مهمة جرت في منعطفات كبرى، وأهم ما فيها هو تلك التحولات الجارية على مواقف العديد من الدول التي راحت تتبصر ملامح الصراع الخفي الدائر ما بين معسكر غربي مهيمن بفعل القوة والسطوة، و معسكر راحت معالمه تتبلور شيئاً فشيئاً وهو يسعى إلى تحطيم «الأوثان» التي ابتناها الأول والتي باتت ترمز إلى فعلي الهيمنة والسيطرة آنفي الذكر، نقول إن سلوك تلك المستشارة راح يبدي استعداداً غريباً للكشف عن محتويات «الصندوق الأسود» الذي كانت شريكاً أساسياً في أحداثه و«أرشفته» حيث الميثاقية هنا تفرض اتفاقاً، ولو بالإيماء بمعنى؛ ليس بالضرورة أن يكون مكتوباً، يقضي بعدم الكشف عن ذلك الأرشيف لفترة تطول أو تقصر تبعاً لبقاء الأحداث «طازجة»أي استمرار مفاعيلها قائمة، أو ذهابها نحو أن تصبح مثل «الخبز البايت» أي جزءاً من التاريخ الذي لا بدّ من تسخينه لاستعادة بعض من «طزاجته» الفعل الذي يحدث عادة على أيدي الباحثين أو المؤرخين.
في 10 من شهر كانون أول الجاري قالت ميركل: إن «اتفاق مينسك كان لخداع روسيا بغية تأمين السلاح والتدريب للجيش الأوكراني»، واتفاق، أو بروتوكول، مينسك كانت قد أطلقته مجموعة رباعية ضمت طرفي النزاع الأوكراني والروسي إلى جانب وسيطين هما فرنسا وألمانيا في حزيران من العام 2014 ثم تكلل بعد ثلاثة أشهر بالتوقيع على صيغة لحل النزاع عرفت باسم «نورماندي 2014» نسبة إلى المكان الذي شهدته الجولة الأولى من ذلك المسار، ثم لم يلبث ذلك الاتفاق أن شهد انتكاسة على وقع تجدد الاشتباكات في إقليم دونباس من جديد، ما اقتضى تغييراً في الصياغة قاد نحو اتفاق معدل العام 2015 والذي صدر القرار 2202 «17 شباط 2015» عن مجلس الأمن متضمناً محتوياته.
تشير« شهادة ميركل» إلى أن اتفاق مينسك بل وذهاب الغرب للموافقة على استصدار قرار أممي يتضمن محتوياته، إلى دلالات عدة، أبرزها أن الغرب غالباً ما يسعى إلى استخدام المنظومة الدولية لتمرير قرارات يدرك أنه سينقضها، لكنه يلجأ إليها لتمرير الوقت والعمل على تغيير المعطيات التي أنتجت تلك القرارات، الأمر الذي يمكن لحظه دائماً على امتداد الصراع العربي- الإسرائيلي، وأن الغرب كان يماطل في المفاوضات التي كان يجريها مع روسيا حيث الفعل هنا كان لكسب الوقت والعمل على خلق جبهة قادرة على خوض حرب بالوكالة مع الروس، والمؤكد هو أن تلك «الشهادة» تعطي مبرراً قوياً لما ذهبت إليه موسكو يوم 24 شباط الماضي عندما لجأت لخلق جدارات بالنار ضماناً لأمنها بعد أن فشلت طاولات التفاوض في خلق تلك الجدارات.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار