ألمانيا وفرنسا تتصدران مشهد إنشاء محكمة دولية لمحاسبة ومقاضاة روسيا

نتشرين- ميشيل كلاغاصي:
مع نهاية شهر تشرين الثاني المنصرم، تحدثت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، عن نية الاتحاد الأوروبي «إنشاء محكمة دولية خاصة مدعومة من الأمم المتحدة»، بهدف التحقيق في «جرائم الحرب المحتملة التي ارتكبتها روسيا في أوكرانيا ومقاضاة مرتكبيها»، وأكدت: أننا «على استعداد لبدء العمل مع المجتمع الدولي للحصول على أوسع دعم دولي ممكن لهذه المحكمة»، ولم تلبث أن تبعها الرئيس الفرنسي وخارجيته ونظام كييف، بترديد وتكرار التصريحات ذاتها.
وما يثير الاستغراب اندفاع رئيسة المفوضية وهي السياسية الألمانية، للإعلان عن الحزمة التاسعة من العقوبات على روسيا، بالتوازي مع إطلاق الحديث عن إنشاء هذه المحكمة لمقاضاة ومحاسبة روسيا، في وقتٍ لم تطرح فيه فكرة إنشاء محكمة خاصة لمحاسبة بلادها أولاً، وهي التي شاركت بجريمة اغتصاب لواء الإسكندرون السوري، وبتسهيل تسليمه لقوات الاحتلال التركي، ومشاركتها في الحرب على لبنان والعراق وأفغانستان وعشرات الحروب الأخرى، ناهيك بمشاركتها العسكرية في الحرب على سورية، وبزياراتٍ متبادلة لوفود برلمانية وسياسية حزبية ألمانية وممثلي ما يسمى «مجلس الإدارة الذاتية الانفصالي»، إضافة إلى مشاركتها القوية بتسليح وتمويل وتقديم كل أشكال الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري لحكومة النازيين الأوكران.. لكن يا ترى ما الذي يدفع السيدة فون دير لاين لإظهار حماسها لإنشاء محكمة دولية خاصة ضد روسيا، وتتجاهل الجرائم التي ارتكبتها ألمانيا ضد الإنسانية، وأقله على مدى القرن الماضي، وما زالت ترتكبها منذ عام 2014، كتفاً إلى كتف ودعماً للنازيين في أوكرانيا؟
تبدو حماسة فون دير لاين، أشبه بحماسة كومبارس مبتدئ يصعد على المسرح للمرة الأولى، في عمل مسرحي خيالي وسخيف، من شأنه فقط الاستخفاف بعقول «المشاهدين» الأوروبيين تحديداً، وتعويلها على عدم إدراكهم حقيقة أن مجلس الأمن وحده المسؤول عن دعم الموافقة على إنشاء محكمة كهذه، وأنه لا يملك فرصة تمرير قرار كهذا بوجود روسيا والصين على منصة الدول الخمس دائمة العضوية، وسيكون هناك «فيتو» روسي حاضراً، وربما «فيتو» روسي – صيني مزدوج.
وفي حال اعتماد السيدة فون دير لاين على تصويت ودعم الجمعية العامة للأمم المتحدة، فستفشل محاولتها قبل أن تبدا، لأن ميثاق الأمم المتحدة لم يمنح تصويت الجمعية العمومية القوة القانونية، ويعتبر بمنزلة حبر على ورق، وإن حاولت حصد تأييد ما يسمى «المجتمع الدولي» عبر تأييد عددٍ كبير من الدول فعليها كالعادة اللجوء إلى استخدام الهيمنة والرشوة والتهديد، لإجبار الدول التي يسيطرون على قرارها، وانتزاع تأييدها.
من جهةٍ أخرى، لا يمكن لمجلس الأمن أن يقدم سوى «خدماته» العسكرية والاقتصادية، وبموجب فصله السابع ضد الدول التي تنتهك القانون الدولي، ولا يستطيع تقديم خدمات قضائية، إلاّ بتجاوز ميثاق ونظام وصلاحيات الأمم المتحدة، كما فعل عشية إنشاء المحكمتين الخاصتين بيوغسلافيا ورواندا.
منذ أوائل التسعينيات وحتى اليوم، لم تتغير ذهنية وأهداف الأمريكيين، وهم أصحاب فكرة إنشاء المحاكم الدولية الخاصة، معتمدين على الروايات والعناوين التي ابتدعوها لمحاسبة وملاحقة والتخلص من خصومهم وأعدائهم كـ«الكرامة» و«حقوق الإنسان» و «الإبادة الجماعية» و«الديمقراطية»، وتقوم باستخدامها كسلاح دعائي إعلامي، لتشويه سمعة المستهدفين وشيطنتهم، هذا من جهة، ولحتمية قبولها من الناس على أنها محاكم عادلة ومنصفة للدول والشعوب، في الوقت الذي لا ينظرون ويرون «النخر» في داخلها» وأنها ما خُلقت إلاّ لتكون أداةً لتحقيق الأهداف السياسية للولايات المتحدة الأمريكية.
ومن باب الإنصاف لا بد من توجيه الاتهام بدعم فكرة إنشاء المحاكم الدولية، للدولة الألمانية أيضاً، وهي التي تشارك الولايات المتحدة بهذه الذهنية والسلوكية، وباستخدامها طريقةً لتسريع تفكيك دول الأعداء، ناهيك بتشويه سمعة قادتها، ولدعم تفكيكها السياسي والاقتصادي، على غرار ما فعلته ألمانيا ضد يوغسلافيا، وتشكيل المحكمة الخاصة بها، إضافة إلى انخراطها بكامل العدائية تجاه الدولة السورية، وبدعم الانفصاليين وبتأييدهم سياسياً لإقامة «إدارةٍ ذاتية» في شرق البلاد، ناهيك بما تفعله اليوم ضد روسيا والانخراط في مشروع تدمير اقتصادها وتفكيكها وتقسيمها.
من الواضح أن السيدة فون دير لاين، القابعة على رأس المفوضية الأوروبية، تسعى إلى جرّ دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وكندا، على حساب دوله ومصالحه وشعوبه، للسير وراء مصالح وأهداف الولايات المتحدة السياسية، وباستهداف الرئيس فلاديمير بوتين شخصياً، ويبدو ذلك من خلال اقتراحها وترويجها لإنشاء محكمةٍ دولية خاصة بروسيا، من دون دعمٍ قانوني – وأقله حتى اليوم – كمن ينوب عن الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة، لإرساء قواعد الهيمنة العالمية والعالم الفاشي الجديد، من خلال محاكم تستخدم تلفيق لوائح الاتهام، وإجراء محاكمات صورية، والحرب الدعاية على روسيا وقيادتها وشعبها، وبالمقابل التستر على جرائم دولتها الأم ألمانيا، وتبرير عدوانها مع شركائها في القطيع الأوروبي، لخدمة المشروع الأمريكي ضد روسيا حالياً، ولاحقاً ضد الصين وسورية وإيران وفنزويلا واليمن وغيرها.
إنها ذهنية واستراتيجية خبيثة لا أخلاقية مكشوفة، تستخدمها واشنطن وبروكسل و«ناتو»، لتشويه سمعة الرئيس بوتين وتصنيفه كـ«مجرم حرب»، ومنعه من أية إمكانية للتفاوض وحل النزاع العسكري، سواء مع الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، وجعل مفاوضات السلام مع أوكرانيا والغرب الأوروبي والأمريكي مستحيلةً تماماً، من خلال تبني مزيف لموقف نظام كييف «لا مفاوضات مع مجرم حرب»  والتي هي بالأساس إملاءات وشعارات خرجت من أدراج التاّمر الغربي على روسيا.
كم من السعادة والفرح غمرا قلب الرئيس بايدن مؤخراً، عندما استضاف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو يدلي للصحفيين بعزم فرنسا على دعم فكرة إنشاء محكمةٍ دولية لمحاسبة ومقاضاة روسيا، لقد أسعد ماكرون قلب العجوز النائم «جو سليبي بايدن» وبادله الاّخر بالمكافأة، وبحشد بعض الأمريكيين من المصفقين والمصافحين والهاتفين بحياة ماكرون، وبالصداقة العميقة، في مشهدٍ لم يحدث في فرنسا أصلاً، ولم ينل ماكرون من شعبه سوى صيحات الاستهجان ومطالبته بالرحيل، وصفعة قوية من أحد الشبان الفرنسيين.
أزعجت تصريحات الرئيس ماكرون وخارجيته الجانب الروسي، وهو الرئيس المنافق الذي حاول استمالتهم كاذباً، بالحديث عن «ضرورة مراعاة أوضاع الأمن القومي الروسي»، وأتاه الرد الروسي سريعاً، صبيحة 1 كانون الأول، عبر رئيس لجنة العلاقات الدولية في مجلس الدوما الروسي ليونيد سلوتسكي بأن: «تصريحات، وزارة الخارجية الفرنسية حول بدء العمل مع الأوروبيين والأوكرانيين لإنشاء محكمة خاصة للتحقيق في تصرفات روسيا في أوكرانيا ليس لها أساس قانوني، وتضمنت بعداً سياسياً» وأشار إلى أنه وفي حال إنشاء محكمة كهذه: لا بد من «وقوف مجرمي الحرب الأوكرانيين ورعاتهم الأمريكيين في قفص الاتهام».
بات واضحاً أن روسيا وسورية وإيران والصين وعشرات الدول حول العالم، تواجه الفاشية الأمريكية – الغربية الجديدة ووحشيتها وقبحها، وبكونها لا تخجل من تاريخها وحاضرها، الذي استباحت ولا تزال تستبيح فيه سيادة عديد الدول والشعوب حول العالم بالعدوان والحصار وبسرقة الثروات الوطنية، وإن كان لا بد من إنشاء محاكم دولية خاصة، فلتكن لهؤلاء الأشرار، بدءأ من السيدة فون لاين وليس انتهاء بقائد حلف «ناتو» وماكرون وشولتز والرئيس بايدن.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار