التفاوض حول أوكرانيا لخداع روسيا أم أوروبا ؟
تشرين- ميشيل كلاغاصي:
نجحت الولايات المتحدة الأمريكية بإجبار روسيا على مواجهة خيار الحرب العسكرية الوحيد في أوكرانيا, لكن سرعان ما فُضح ازدحام الحروب داخل أجندة المخطط الدنيء, كالحروب السياسية والاقتصادية والمالية والعقوبات.. إلخ, بالإضافة إلى الازدحام في خندق الأعداء, بدءاً من القوات المسلحة لحكومة النازيين الأوكران ومرتزقتهم, وصولاً إلى حلف شمال الأطلسي «ناتو» والاتحاد الأوروبي، و…, وانكبت كل أطراف الصراع على سجلاتها اليومية لتدون كل تقدم أو تراجع, ولتقييم سير المواجهات, والاهتمام بتصويب الخطط العسكرية والجيوسياسية, والاقتصادية الاستراتيجية, فيما انهمك أباطرة الحرب في الولايات المتحدة, على إحصاء المكاسب وجني الأرباح والفوائد من السياسات التي تنتهجها الإدارة الأمريكية والرئيس جو بايدن بما يخدم مصالحهم, ويبعد شعوبهم والمتربصين بهم ويلهيهم عن المعارك المالية والاقتصادية والسياسية والعرقية, داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
لم تكتفِ الولايات المتحدة بوضع مخططات الحرب على روسيا, بل حرّضت ودفعت بكل قواها لنشوب هذا الصراع, وأجبرت أوروبا والأوروبيين على تطبيق العقوبات الأمريكية والأوروبية على روسيا, وبالامتناع والتوقف الفوري عن شراء الغاز الطبيعي الروسي رخيص الثمن, وفسح المجال أمام واشنطن لبيعهم كميات ضخمة من الغاز المسال بالأسعار المضاعفة لأربعة أمثال، من دون أن تحدد لها سقفاً لأسعارها, كما تحاول الآن فرض أسعارٍ محددة على مبيعات الغاز الروسي.
من الواضح أن واشنطن استطاعت توجيه ضربةٍ قوية للغاية للاقتصاد الأوروبي بكليته, وبنقل الثروات والأموال الأوروبية الطائلة إلى الولايات المتحدة، من دون أن تتغير, خرائط هيمنتها على القارة الأوروبية, أو تبعية وسياسة القطيع الأوروبي «للسيد» الأمريكي.
لا يمكن تجاهل أهمية ما حققته واشنطن لضمان سيطرتها على أوروبا, وخصوصاً أنها كانت تخشى من انفلات قبضتها, وخروج الدول الأوروبية عن بيت الطاعة الأمريكي, فالعالم اليوم يقف على بعد أمتار من تبلور ملامح العصر الجديد, والوقت الحالي هو لزيادة النفوذ وأوراق القوة, ولن يخدم تحرر أوروبا وخروجها من القبضة الأمريكية, سوى بتأكيد وإعلان نفسها قوة قديمة – جديدة – مستمرة – مساوية للولايات المتحدة, والقوى العظمى الأخرى على الساحة الدولية, والتي قد تندفع نحو روسيا والصين والفلك الأوراسي لضمان مصالحها, وهذا سيضع في طبيعة الحال نقطة النهاية للهيمنة الأمريكية على العالم.
لا تجد الولايات المتحدة بديلاً عن سياسة” فرّق تسد”, لمنع أوروبا من التحليق خارج الأقفاص الأمريكية, وتبحث دائماً عن إبقائها محوطة ومنشغلة بالتضخم والبطالة وبارتفاع الأسعار والمشاركة في حروبٍ لا تعنيها, أو تلك التي تتضرر منها كالحرب على روسيا, التي تسببت فيها العقوبات المفروضة على روسيا, بإحداث شلل في قطاع الصناعة الأوروبي, وبتكبيد الشركات المنتجة مبالغ إضافية ترفع من تكاليف الإنتاج, نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة التي يحصلون عليها من الولايات المتحدة, وهكذا تنتقل الأموال الأوروبية الإضافية أيضاً إلى خزائن الولايات المتحدة.
لم تعتد الولايات المتحدة على احترام مصالح الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي, ولم تنسَ أنه تحالفٌ لعدة دول عاشت في ظل الاحتلال العسكري والاقتصادي للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم, وتبدو ماضية في سياسة ما يمكن وصفه بالـ«تدمير» الأمريكي لدول الاتحاد الأوروبي, عبر حرمانها من الطاقة الرخيصة, وسحقها اقتصادياً وإخضاعها سياسياً.
ومع دخول الصراع والحرب على روسيا عبر الساحة الأوكرانية شهرهما التاسع, ومع بداية فصل الشتاء, تقترب ساعة الحقيقة والتحدي الذي يواجهه الاتحاد الأوروبي لتلبية احتياجاته من الطاقة, وهو ينظر إلى موسكو التي تملك ما يحتاجونه, لولا العقوبات الأمريكية التي انخرطوا في تطبيقها وتفننوا في ابتداعها.. بات على الحكومات الأوروبية الاعتراف بتأثير أخطائها على أمن الطاقة الأوروبي والعالمي, الأمر الذي يفرض عليها بذل الجهود المضاعفة للمساعدة في كبح أجندات الولايات المتحدة, وبقبول ولادة العالم الجديد متعدد الأقطاب.
فاستمرار الحرب, سيكون سيئاً بالنسبة للأوروبيين, ومناسباً للولايات المتحدة التي تجني الأرباح, ولن يكون في مقدورهم سوى انتظار وصول الغاز الروسي عبر تركيا.
وكي لا تتحرك أوروبا, دفعت إدارة بايدن موضوع التفاوض مع روسيا حول أوكرانيا, وسط غابةٍ من الآراء والمقترحات والوصفات السخيفة, فمنهم من طالب بانسحاب روسيا من الأراضي الأوكرانية قبل بدء التفاوض, ومنهم من يفكر بتقديم التنازلات, وبالاعتراف بضم المناطق الأربع التي اختارت الانضمام إلى روسيا بعد الاستفتاءات التي نظمتها موسكو, وهناك من يرفض ذلك ويريد عودة شبه جزيرة القرم أيضاً, ومن يقبل مبدأ التفاوض بعيداً عن التنازلات.. في وقتٍ قال فيه الوزير لافروف: إن “روسيا لم تطالب بإجراء محادثات مع أوكرانيا”
عموماً, يبدو أن الغرب مستعد للمفاوضات من موقع القوة فقط، والظهور في مظهر البطل الذي دافع عن استقلال أوكرانيا عن روسيا وبتأكيد انتمائها إلى العالم الغربي, وسط مخاوف الأمين العام لحلف «ناتو» ينس ستولتنبرغ من أن يؤدي التفاوض إلى إعلان انتصار الرئيس بوتين, وعليه أكد بالأمس«ضرورة مواصلة تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا», بمعنى؛ إنه يفضل التفاوض تحت النار.
يبدو إعلان انتصار روسيا فكرةً صعبة جداً, وقد رفضها الرئيس الأمريكي مؤخراً, بحضور ضيفه الرئيس الفرنسي, وأكد أنه: «لا يمكن السماح بها», وسط أجواء اللقاء «الحميم» ووجبة الآيس كريم التي تناولاها معاً, التي جعلتهما يعربان عن «تصميمهما لتحميل روسيا وبوتين مسؤولية الحرب على أوكرانيا», كما ساعدت ماكرون على اقتراح إنشاء “محكمةٍ دولية لمحاسبة روسيا”.
من الواضح أن واشنطن وباريس, هما أبعد ما تكونان عن القبول بوقف الحرب والتفاوض لإحلال السلام, ومن خلال طرح التفاوض عبر الطرف الأوروبي المهزوم الذي يمثله ماكرون, والطرف الذي يمثله بايدن كجانٍ للأرباح والمستفيد الوحيد, وسط غياب الطروحات الجدية, والنيات الحسنة, ويبدو أن الحديث عن المفاوضات حديثٌ إعلامي, طالما أنه لا يزال يقترن باستمرار تسليح وتمويل قوات أوكرانيا النازية, وبسخافة طرح التفاوض تحت النار, وبإنشاء محكمة دولية لمقاضاة ومحاسبة روسيا, ولكم أن تتخيلوا نوع المفاوضات التي يتحدثون عنها, بالتوازي مع بيان دول مجموعة السبع وأستراليا, الذي حدد سعر برميل النفط الروسي بـ 60 دولاراً, الأمر الذي رفضه الرئيس بوتين، وأكد بشأنه نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، أن: «موسكو لن تصدّر النفط إلى دولٍ تضع سقفاً سعرياً, ليس بـ 60 دولاراً للبرميل, ولا بأي تكلفة أخرى», وأن بلاده ستعمل فقط مع أولئك “المستعدين للتعاون بشروط السوق”.