“الجرف القديم”.. نظرة طويلة عن تاريخ الإنسان و”البعوض”
تشرين- حنان علي:
“صديقك الأقدم، عدوك اللدود…”.
في عام 1904 على ضفاف نهر زامبيزي، على بعد أميال قليلة من شلالات فيكتوريا المهيبة؛ تقع مستوطنة استعمارية تسمى “الجرف القديم”.. وهناك في غرفة عابقة بالدخان في فندق مقابل للنهر، يرتكب متهورٌ مسن خطأً يورط صاحب الفندق الإيطالي ورجل أعمال إفريقيا، مطلقاً سيلاً من عمليات الثأر بين عائلات زامبية ثلاث.. ومع مرور الأجيال، تظهر تفاصيل حياتهم – بانتصاراتهم وأخطائهم وخسائرهم وآمالهم عبر بانوراما تاريخية خيالية ورومانسية شائقة.
“نحن متماثلون تمامًا، ننتشر في كلّ مكان بلا نفع أو جدوى.. لكن بينما تحكمون الأرض وتدمرونها في سبيل منافعكم، نتسكع نحن كأبطال مجهولين- منذ دهور، منذ الأحافير”. فهل بإمكان القارئ توقع من يكونون؟
تبدأ رواية “الجرف القديم” بالمستكشف الاستعماري الدكتور ليفنغستون ، الذي أصيب بالملاريا أثناء بحثه عن منشأ النيل في المكان الخطأ: “إنها قصة أمة – وليست إرث مملكة أو قبائل- لذا تبدأ بالطبع برجلٍ أبيض!” . لتنجرف جوقة البعوض عبر ملحمة طموحة متعددة الأجيال تدور أحداثها في زامبيا، ما يوفر نظرة طويلة عن التاريخ البشري بأصنافه جميعاً من خلال قصص عائلات متداخلة، أوروبية وإفريقية وهندية.
تقدم الروائية الزامبية ناموالي سيربل تاريخ و(مستقبل) زامبيا خلال فترة الاستعمار والاستقلال، مستعرضة وباء الإيدز ، وبرنامج الفضاء الزامبي المشؤوم، وسد كاريبا، والثورة.. وصولاً إلى عصر الإشراف الجماعي وحرب الطائرات من دون طيار..
تُصوِّر الفصول اللاحقة من الرواية مستقبلًا قريباً يتم فيه دمج أجهزة بأيدي البشر تُدعى البيدز – مماثلة للهواتف الذكية – سرعان ما تصبح أداة للمراقبة الحكومية.. في الوقت نفسه ، يتم اختبار لقاح تم تطويره بأموال أجنبية على الشعب الزامبي: “الشعوب السوداء لا تنتج سوى خنازير كبيرة”.. هذا ما قالته إحدى الشخصيات بمرارة.
اعتمدت سيربل الأسلوب المنمق عبر الطرق الثلاث لنظرة البشر للأشياء: واضحة أو تنبؤية ، كموارد لاستغلالها ، أو مصادر للجمال والرهبة. كما أن استفاضة الكاتبة الوصفية أثبتت اختياراً واعياً : “الكفاءة؛ ما دمر هذا البلد – عبادة البريطانيين للكفاءة “.
قدمت سيربل مشاهد رائعة من التكلم البطني الأدبي (إضافة إلى التلميحات المتناثرة المأخوذة من شكسبير إلى ميلتون إلى لوكريتيوس إلى فيرجيل)، ليأتي الفصل الأخير كإعادة صياغة لافتتاح قلب الظلمة لجوزيف كونراد، مرددة الصوت المثالي لمستعمر بريطاني متوحش في الفصل الأول: ” العزلة الموجعة أصعب ما يرافق الاستكشاف، من البدهي ألا أقيم صداقات مع السود”. أما الفصول الأخيرة فتعلن نهاية العالم، حيث تكتسح الفيضانات والنيران جميع الخطب والتضحيات .
تقدم “الجرف القديم” عرضًا للتاريخ البشري المتميز بأخطاء كارثية، بدءاً من حسابات الدكتور ليفنغستون المهلكة حول منشأ النيل إلى التطور نفسه : “لا تنسى أن التطور صاغ الحياة بأكملها ؛ مستخدماً أداة واحدة فقط: الخطأ من الإنسان”، وتغافلت الكاتبة عن ذكر بقية العبارة التي قالها ألكسندر بوب :” .. والمغفرة من الرحمن”.
يُشار إلى أن ناموالي سيربل كاتبة زامبية حازت روايتها “الجرف القديم” على جوائز: آرثر سي كلارك، جائزة لوس أنجلوس تايمز آرت سايدنباوم، وجائزة (Anis field-Wolf Book ) للخيال، وجائزة ويندهام كامبل للخيال، كما تم اختيارها كأفضل كتاب للعام من عدة مجلات ومواقع أمريكية.