جين شارب والـ(BHL) في بلاد فارس
إدريس هاني:
في خضم الصراع الذي تفرضه الدينامية الجيوستراتيجية الدولية، هناك مكونات شرق ممانع يبدأ من الشرق الأوسط -البؤرة الأكثر تميزاً من غيرها- المتميزة بالهشاشة والموارد الطبيعية والميراث الرمزي، وتنتهي بالشرق الأقصى. فالحرب الروسية- الأوكرانية هي واجهة لهذا الصراع، فهي مستوى منخفض من الحرب، إذا ما أخذنا في الحسبان، أنّ ما تحت هذه الحرب هو المستحيل، وما فوقها هي الحرب النووية.
وفي هذا السياق تراقب الصين لعبة الكاش- كاش بين روسيا والغرب، لأنّ لا أحد يملك إيقاف التنين، وهي ماضية نحو عالم جديد استوعبت كل مؤشراته، أمّا اليابان، وعلى الرغم من لبرلة اقتصادها المشروط بهزيمة الحرب العالمية الثانية، فهي أكثر احتقاناً نظراً لذاكرتها المأساوية منذ هيروشيما وناغازاكي، أما الكوريتان فلا بدّ من التئام، هو كامن في لاوعي جمعي جنوبي أيضاً.
ويبدو الشرق الأوسط في هذا الرهان جبهة متقدمة وفي الوقت نفسه مؤشر لآماد الحرب الكونية التي بدأت بأشكال مختلفة. وليست إيران استثناء في هذه المعركة، فالبروباغاندا الغربية تمنح لكل هؤلاء الأقطاب صورة نمطية لتبرير كونها الأولى بالشرق الأوسط من أهله. فالأمة الصفراء الشرق- أقصوية، والأمة السلافية الأوراسية، والأمة الفارسية والشرق- أوسطية كلهم عنوان لحرب حضارية، لها أكثر من حكاية في سجلّ غرب معني بتوزيع أحكام قيمة على الأمم، وتحديد ماهيتها أنطولوجياً وثقافياً.
وفي هذه المعركة يبدو أنّ إيران تصالحت مع حقيقتها الجغرافية والتاريخية، وانخرطت في مستوى الحرب الجيوستراتيجية، وأعدت لها عدّتها، ولما نقول عدّتها، نقصد اقتدارها العسكري الذي يحدد أفق هذه المعركة. فمن لا يملك اقتداراً عسكرياً، عليه أن يكفّ عن الحديث عن مواقف جيوستراتيجية. وهي حسب تموضعها الجغرافي، تدرك أعماقها الإستراتيجية جيداً. هذه الحرب التي تخوضها إيران، هي دفاعية، لأنّها تجري على حدودها وأعماقها الإستراتيجية، وفي إطار ما يتيحه القانون الدّولي، ولاسيما مع البلدان التي تربطها معها اتفاقية دفاع مشترك.
ما يجري اليوم في إيران هو أكبر من احتجاجات ذات أفق واضح، كما أعربت عنه خطابات خصوم الجمهورية الإسلامية؛ هو الإطاحة بالنظام. ولقد اتخذت الحرب شكلاً سوريالياً، سرعان ما تمّ إحباطه بوسائل مناهضة للُّعبة الجين- شاربية التي سبق أن فشلت في سورية وتمرغت في التّراب. لقد باتت المعركة الثقافية في واجهة الحرب الكونية. الحرب الثقافية هنا واجهة تخفي رهانات السيطرة بأبعادها الاقتصادية، وهنا تبدو آليات الرقابة والعقاب، وبروباغاندا التبشيع والتنميط، وسياسة الحصار والتجويع، كلها أساليب للإخضاع.
المفارقة هنا تكمن في أنّ بروباغاندا التشويه والتنميط تجد لها معسكرات الدعاية في أحياز رجعية، حيث الظّلامية والاستبداد رسميان. وما يبدو قيماً مناهضة للإنسان في إيران هي نفسها القيم المطلبية في النقاش العمومي لغرب يتآكل نتيجة اللبرلة المفرطة. لكن المعضلة لا تكمن في جوهر الفوارق الثقافية بين الشرق والغرب، بل في سياسة الهيمنة والسيطرة، في غريزة الاحتلال ومحق السيادة.
طريق إيران نحو الغرب سهلة، وهي تتوقف على قرار الانسحاب من كلّ الملفات العالقة في الشرق الأوسط، والقبول بتخفيض مطلبها السيادي مقابل الجندرمة الإقليمية. في مثل هذه الحالة كان من المنطقي أن يتحسس عرب الإقليم رقابهم فيما لو أمسكت إيران بتلابيبهم كمحور غربي في المنطقة، غير أنّ ما يتجاهله الغرب، هو أنّ البديل في إيران هو تمكين إيران كمحور غربي في المنطقة، وما يتجاهله الغرب، هو أن إيران منذ ما يزيد على أربعين عاماً تجاوزت هذا الدور، وهي بصدد تحصين سيادتها الكاملة، والغرب الذي ما زال يعيش على ذُهان الحرب الباردة، لا يريد أن يمضي بإيجابية نحو الاعتراف. الغرب، وبسبب هذا الضغط اللاّنهائي، ساهم وما زال في عدم استقرار الشرق الأوسط.
لن يستطيع الغرب أن يغير شيئاً في إيران، ولكنه يستطيع أن يسهم في الفوضى وتهديد الاستقرار، ذلك لأنّ الدرس الأول في الجيوستراتيجيا هو تقدير الموقع والقوة التي تتمتع بها الدول، وتحديد السياسة على قدر موقعها. وما يفعله الغرب، هو مقاربة بهلوانية، تقوم على إنكار حقائق التاريخ والجغرافيا، فمشكلة إيران، هي مشكلة الغرب نفسه، والبقية تفاصيل يمليها التمحور الإقليمي، وهي متوقفة على قرار الغرب الذي لا بدّ أن ينتهي بالاعتراف، وبأنّ اللعب في الأعماق الإستراتيجية للدول هو كاللعب في أعماقها الوطنية.
الغرب الذي يبدو مصراً على مفاوضة إيران، ويقوم باختراقات للملف التفاوضي بإقحام قضايا خارج الاختصاص، تتعلق بملفات إقليمية، يفسرّ هذا الضغط الذي يستهدف الدّاخل الإيراني بما يشبه ربيعاً فارسياً جاء في وقت غير مساعد على تكرار المحاولة. فالحراك الشعبي المؤيد للنظام وحده كفيل بإنهاء لعبة جين شارب. فالقوة الجاذبة لهذا النموذج ظهرت في العالم العربي، وأنتجت خراباً مأساويّاً.
إحياء أنماط جين شارب وبرنار هنري ليفي في فارس، غباء، لأنّ أصل العصيان المدني المستوحى من أسلوب غاندي، نجح ضدّ الاحتلال، وأنّ تعبئة المجتمع هنا ضدّ الاحتلال تبدو فائقة.
إجراءات إيران في مواجهة مخطط إشعال الجبهة الاجتماعية، هي مزيد من التشبث بمواقفها تجاه القضية الفلسطينية، ودعم قوى مناهضة الاحتلال في الشرق الأوسط، وأيضاً تدبير الأزمة الداخلية بامتصاص الفتنة وسلب فرص الصدام الأهلي بإدارة أمنية لا تتوسّل الشّطط والإفراط، كما أنّها تعمل على كشف الغطاء عن التشبيكات المشبوهة والسلوك الإجرامي لقادة الحراك، الذي وضعه التدبير الضدّ- جين شاربي في حالة هستيريا، فعمد إلى إظهار غريزة العنف والتخريب للممتلكات العامة والخاصة واستهداف الرموز، وهي أساليب أسقطت المظهر التحرري والإنساني لعملاء قوى أجنبية لا يتمتعون بعمق اجتماعي، ولكنهم يعتمدون ببلادة أساليب جين شارب التي سبقهم إليها الغوغاء في بلدان كثيرة عبثاً.
أرى في موجة جين شارب في نسختها الإيرانية شيئاً شبيهاً بحالة استدراكية متأخرة، لغوغاء أظهروا نياتهم التخريبية، وتطرفهم واضح بيِّن، لأنّهم غير معنيين بما يحيط بهم، وهم حاقدون حتى على العرب الذين يدعمونهم، لأنّهم ليسوا أصدقاء العرب ولن يكونوا. فأصدقاء العرب الوحيدون هم هذا التيار الذي بادره الغرب بحرب سخّر فيها بعض العرب لتكون بمثابة حاجز تاريخي منيع بين القوميين. باتت الإيرانوفوبيا مطلباً جيوستراتيجياً راسخاً منذ الثمانينيات.
ويبدو أنّ الحراك في إيران يتراجع بصورة ممنهجة، ليس عن طريق قمع الشّغب، بل بتدبير يستند إلى القوة الرمزية والذكاء والأساليب الناعمة، فالمعركة ممتدة سوبرانيّاً، حيث طوقت إيران نفسها بحصانة ضدّ لعبة التشبيك الافتراضي، وأخرجت الثعابين من جحورها، وهي معركة شديدة التعقيد، لكنها ماضية، وهي تتكامل مع معادلة الصراع بين شرق بأوسطه وأقصاه، و غربٍ ما زال حتى اليوم يستهين بالذكاء الشرقي، بالفرس والسلافيين والعرق الأصفر.