الرأسمالية تسرق الغذاء والدواء
عماد خالد الحطبة:
احتضنت تركيا في 23 تموز 2022 مراسم توقيع اتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية عبر موانئ البحر الأسود، جاء هذا التوقيع وسط ترحيب دولي عبّر عنه حضور الشخصية الأممية الأولى انطونيو غوتيريش مراسم التوقيع، وحديثة عن مساهمة هذه الخطوة في حل أزمة الغذاء العالمي التي بدأت تتفاقم مع انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في شباط من نفس العام.
الأزمة كما تقدمها الأمم المتحدة ثلاثية الأبعاد، فمن ناحية الآثار الاقتصادية لوباء كورونا ومن ناحية أخرى نقص إمدادات الغذاء العالمي الناجم عن الحروب وبشكل خاص الحرب في أوكرانيا، وارتفاع أسعار الوقود والشحن الذي يعوق سلاسل التزويد العالمية.
أما برنامج الغذاء العالمي فقد قال في تصريح أطلقه في شهر حزيران الماضي أن 838 مليون إنسان ينامون جوعى، وأن 50 مليون إنسان في 45 بلداً يعيشون على حافة المجاعة، وأن البرنامج يحتاج إلى مخصصات تقدّر بحوالي 23 مليار لمواجهة هذه الأزمة.
تحدث البنك الدولي عن أزمة الغذاء التي رأى أنها ليست الأسوأ في التاريخ الحديث، وبشكل خاص الأزمة التي ضربت العالم ما بين عامي 2008 – 2011، عندما ارتفعت أسعار السلع الثلاث الأساسية «الأرز، القمح، الذرة» بنسبة 76%، في حين يقتصر الارتفاع خلال هذه الأزمة على 30%، ويؤكد ديفيد مالباس الرئيس الثالث عشر لمجموعة البنك الدولي أن الاحتياطات العالمية من السلع الأساسية الثلاث لا تزال كبيرة بالمعايير التاريخية.
لن نستطيع حل التناقض بين تصريحات المؤسستين الأمميتين، إلا بالبحث عميقاً في الأرقام لنجد أن الإجراءات التي اتخذتها روسيا بتصدير الحبوب للدول الصديقة، وكذلك قيود التصدير التي وضعتها مثل صربيا ومقدونيا والهند ومصر والسودان، لم تساهم برفع الأسعار إلا بنسبة 7 %، وأن الارتفاع الرئيسي يعود لارتفاع أسعار الشحن والتأمين، والصراعات المحلية، والفساد في الدول الفقيرة.
لماذا إذن كل هذا الضجيج العالمي الذي يربط بين العملية العسكرية الروسية وأزمة الغذاء العالمية؟
الهدف الأول سياسي يتمثل في وضع المزيد من الضغوط السياسية والشعبية على روسيا، ومحاولة شيطنة روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، أما الهدف الأساسي فهو اقتصادي، فالرأسمالية تخوض حروبها وتصنع من أزماتها فرص لنهب المزيد من مقدرات الشعوب.
حسب مراكز المتابعة الدولية فإنه ما بين 27 تموز و27 آب من عام 2022، بلغت كميات الحبوب المصدرة من خلال اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية 720 ألف طن من أنواع الحبوب المختلفة، أما برنامج الغذاء العالمي فقد أعلن في 16 آب 2022 أن أول شحنة من الحبوب الأوكرانية انطلقت باتجاه القرن الإفريقي للمساهمة في محاربة المجاعة التي تهدد المنطقة، وقد بلغ حجم الشحنة 23 ألف طن، بحسبة بسيطة من دون الحاجة إلى خبراء اقتصاديين، فإن مخصصات دعم برنامج الغذاء العالمي لم تتجاوز 3 % من الكميات المصدرة، أين ذهب الباقي؟
الإجابة واضحة: ذهب في معظمه إلى مستودعات ومخازن الدول الغنية، وهو ما أكده تقرير البنك الدولي المذكور سابقاً من أن الاحتياطات العالمية من المواد الغذائية الأساسية مرتفعة حسب المعايير التاريخية، هذا المخزون من المواد الغذائية سوف يستخدم لاحقاً حسب الأسعار العالمية الجديدة لتعويض جزء من الخسائر التي أصابت الاقتصادات الرأسمالية خلال الأزمة.
في شهر آذار من هذا العام، أعلن برنامج الاستجابة السريعة في الأمم المتحدة عن تحرير 22.9 مليون دولار للمساهمة في تخفيف آثار ارتفاع أسعار الحبوب والطاقة الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، تبجح وزير الدولة الألماني للتعاون الدولي بريل كونر أن بلاده «فخورة بالمساهمة في آلية الطوارئ بمبلغ 2.7 مليون دولار أميركي لدعم الأمن الغذائي» في شهر آذار نفسه قدمت ألمانيا لحكومة زيلنسكي في أوكرانيا 1000 مدفع مضاد للدبابات و500 صاروخ ستنغر، وقدم الاتحاد الأوروبي 450 مليون دولار على شكل أسلحة، و50 مليون دولار على شكل ذخائر، أي إن ما قدم لدعم برنامج الغذاء العالمي خلال شهر آذار يعادل 4 % مما قدم لدعم استمرار الحرب في أوكرانيا.
منذ بداية الأزمة قدم العالم 10 مليار دولار لدعم حكومة أوكرانيا في حربها، في حين لم يتجاوز الدعم لبرنامج الغذاء العالمي 230 مليون دولار.
ما تفعله الرأسمالية في موضوع أزمة الغذاء يذكرنا بسلوكها في موضوع المطاعيم إبّان أزمة كورونا، عندما حرمت دول العالم الفقيرة من اللقاح، الأمر الذي ما زال يؤثر في تلك الدول ويهدد شعوبها في حال انفجر الوباء مرة أخرى في الشتاء القادم، يتضح الأمر إذا عرفنا أن معدلات التطعيم العالمي ضد كورونا تبلغ حوالي 64 % في حين تبلغ في تنزانيا 29% وفي كينيا 17%، وفي السودان 10 %.
خلال السنتين الأخيرتين أسقطت الأنظمة الرأسمالية جميع الأقنعة التي حاولت أن تخفي وراءها وجهها الحقيقي، فلا مكان للرأسمالية الإنسانية، والرأسمالية الاشتراكية، للرأسمالية وجه واحد، قبيح، وسلوك واحد، نهب مقدرات الشعوب والاستهانة بالحياة وعدم التورع عن ارتكاب أقسى الجرائم بحق الإنسانية.
كاتب من الأردن