معاني وتداعيات فوز اليسار البرازيلي

عبد المنعم علي عيسى:

مفهوما «اليمين» و«اليسار» في البرازيل ليسا كغيرهما في بقية الدول، ولكي يكون القول السابق دقيقاً يجب أن يعقبه أن ذينك المفهومين يزيدان عما هما عليه في بقية الدول أخرى بارتباطهما الوثيق بـ «المناطقية» و«اللون»، فاليمين جلّ جمهوره يتركز في الشمال الغني ذي الأغلبية «البيضاء» التي تمثل أقل قليلاً من نصف سكان البرازيل، أما اليسار فيتركز ثقله في الجنوب الفقير الذي يقطنه جل «الملونين» و«السود» الذي يوازي عددهم مجتمعين، عديد البيض آنف الذكر أو هو يزيد عليهم قليلاً.
خيضت الانتخابات الرئاسية التي جرت في البرازيل يوم 30 تشرين الأول الماضي عبر تكتلين اثنين، يضم الأول «حزب العمال» الذي يتبنى نهجاً اشتراكياً، ويتمتع بقاعدة قوية في صفوف النقابات والعمال، و«الحزب الشيوعي البرازيلي» الذي ظل متبنياً لـ «الماوية» منذ العام 1962 قبيل أن يقرر مؤتمره الذي انعقد العام 1992 العودة إلى نهج الماركسية التقليدية، وجلّ قواعد هذا الأخير تتمركز في صفوف النخب وطبقات الفقراء، ثم يضم «حزب الخضر» ذا الاتجاه اليساري، ومن وراء هؤلاء كانت الحركة الديمقراطية «التي جيّرت أصواتها لذلك التكتل من دون أن تنخرط فيه»، أما التكتل الثاني فهو يضم «حزب الجبهة الليبرالية» وهو حزب الرئيس السابق جير بولسارنو الذي ومن اسمه يتضح أنه يتخذ من الليبرالية منهجه الأساس ثم يضيف عليها بعض الملحقات التي تجعله أقرب للمحافظة الاجتماعية، وحزب «تكتل التقدميين» الذي جلّ قوامه من أصحاب رؤوس المال والمصالح التجارية، ثم حزب «الجمهوريين» الذي يمثل اتجاهاً مسيحياً كاثوليكياً مشوباً بنفحة عرقية يبرزها عداؤه لـ «الملونين».
جرت المنازلة بين التكتلين يوم 30 تشرين الأول الماضي، وفي نتيجتها فاز الأول بزعامة لولا داسيلفا زعيم «حزب العمال» بـ 50.9 % في مقابل حصول الثاني على 49.1% من أصوات الشارع البرازيلي، والمؤكد هو أن ضيق المسافة الفاصلة بين الطرفين كان يشير تقريباً إلى توازع الثقل ما بينهما حسبما ترسمه الخريطة الديموغرافية سابقة الذكر التي قوامها«المناطقية واللون»، وبهذا المعنى فإن فوز اليسار يمثل فوزاً لمناطق الجنوب وفقرائه الذين تراصفوا وراء زعيم سبق له، خلال فترة حكمه السابقة 2003 – 2011، أن استطاع انتشال 29 مليوناً من براثن الجوع والعوز، وفي السياق استطاع أيضاً تحرير بلاده من ثقل ديون كادت أن تودي بالبلاد إلى الانهيار الاقتصادي مطلع هذه الألفية، وفي غضون ثماني سنين، هي مدة حكم داسيلفا، كانت البرازيل قد حجزت مقعداً بين الدول العشر الكبار على لائحة الاقتصادات الأقوى عالمياً، وعليه فإن البرازيل ستكون اليوم مع هذا الأخير على موعد مع نهوض جديد سوف يكون حاملاً بالضرورة لتغييرات مجتمعية جذرية يتوقع لها أن تزيد من حصانة الداخل في مواجهة رياح تكاد تعصف بالمعمورة بأربعة أصقاعها.
في الأبعاد الخارجية يمكن القول إن فوز داسيلفا سيعزز نهج «بريكس» الذي يرمي لخلق عالم متعدد الأقطاب وفق ما جاء في البيان التأسيسي لتلك المنظمة التي ضمت كلّاً من روسيا والصين والهند إلى جانب البرازيل، والأخير، أي البيان التأسيسي، كان قد صدر من العاصمة البرازيلية العام 2009، والفعل، الذي نقصد به هنا تعزيز نهج «بريكس»، سوف يتخذ شحنة دعم إضافية في ظل تحالف صيني- روسي تعاظم ما بعد 24 شباط الماضي بدرجة لم ينفع ترهيب الغرب، ولا إغراءاته، لفك عراه ولا فرض مراوحة على مساره الصاعد بقوة نحو الأعلى.
هذا المنحى الأخير الذي تشير إليه عودة داسيلفا للسلطة في البرازيل سوف تكون له تداعيات سلبية لدى غرف صناعة القرار في واشنطن التي تعاني هذه الأيام من محاولات «التفلت» من قبضتها الذي تبديه دول كانت حتى الأمس القريب «تتلذذ» بتلك القبضة، ولعل تصويت «أوبك بلس» يوم 5 تشرين الأول الماضي على تخفيض إنتاجها من النفط لمليوني برميل يومياً خير مثال على تلك المسألة، والمعاناة الأمريكية لا تقتصر على هؤلاء، فأنقرة ما انفكت سياساتها تبدي الانزياح تلو الآخر الذي يقربها أكثر نحو موسكو، أما إيران فكان لها «التصلب» في مواجهة الضغوط التي تمارسها واشنطن لإنضاج «نسخة معدلة» من الاتفاق النووي الإيراني المنعقد في تموز 2015.
كل هذه سكاكين تمزق نسيج الهيمنة الأمريكية، وتصيب «هيبتها» في مقتل، وإن فوز داسيلفا سيعمق الجراح الأمريكية بدرجة أكبر.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار