على هامش قمتها الـ18 “فرانكفونية” المستقبل.. الوهم الفرنسي الكبير

د. رحيم هادي الشمخي:
لا يمكن إلّا أن نتوقف عند القمة الفرانكفونية التي اختتمت أعمالها في تونس الأحد الماضي، بمشاركة نحو90 وفداً و31 من قادة الدول، وذلك بعد تأجيلين سابقين في عامي 2020 و 2021 بسبب وباء كورونا.
نتوقف عند هذه القمة، وهي الـ18 بالترتيب، رغم أن الفرانكفونية كـ«منظمة دولية» بالتعريف، نكاد لا نسمع بها إلّا عند انعقاد قممها، فهي تكاد تكون غائبة حتى كدور ثقافي والذي هو أساس قيامها كما تزعم فرنسا، الدولة الاستعمارية التي أرادت دوام هيمنتها على مستعمراتها السابقة فاختلقت لها ما سمته الفرانكفونية، أي منظمة الدول الناطقة بالفرنسية كلغة رسمية، إلى جانب الدول التي تعتمد الفرنسية لغة إضافية، ومعظم هذه الدول تتواجد في القارة الإفريقية، فيما الاختلاف الدولي الوحيد هو كندا التي تتحدث الفرنسية في بعض المقاطعات “مثل مقاطعة كيبك التي كانت في وقت من الأوقات مستعمرة فرنسية”.
هذا الحال، أي الغياب، لا يغير منه المشاركة الضخمة آنفة الذكر في أعمال القمة، إذ يبدو أن فرنسا أرادت جمع أكبر حشد ممكن لإثبات أن هذه المنظمة لا تزال حيّة، لكن حسابات الحقل في الدول المشاركة ليس بالضرورة أن تتوافق مع حساب البيدر الفرنسي، وربما في المرحلة اللاحقة ينكشف لنا بعض من كواليس هذه القمة التي لا علاقة لها بمساعدة المستعمرات السابقة أو دعم التنمية أو تحقيق الاستقرار السياسي فيها، تريد فرنسا أن تنسج فضاء جديداً موازياً «وفي مرحلة لاحقة بديلاً» للفضاء الفرانكفوني الذي يبلغ من الاتساع – كمّاً ونوعاً- مستوى لا يُستهان به، لكن فرنسا عملت دائماً على دفعه إلى حضيض الحضيض اقتصادياً وسياسياً، وبما لا يؤثر في عمليات النهب والسرقة التي تمارسها ضد دول هذا الفضاء “321 ناطق باللغة الفرنسية في 84 دولة، 58 دولة عضو و 26 دولة تتمتع بصفة مراقب، وبعضها لا علاقة له باللغة الفرنسية”.
تتمسك فرنسا بهذه المنظمة رغم اعترافها بأن الفرنسية تشهد انحساراً متواصلاً يترافق مع اتساع العدائية لفرنسا، وانتشار التحركات لطردها خصوصاً من مستعمراتها الإفريقية «والتي تتركز وسط وغرب القارة الافريقية».. بعض هذه التحركات نجح، إذ اضطرت فرنسا للانسحاب من مالي بداية هذا العام 2022 ومن المتوقع أن تلحق رواندا بها.
هذا «الطرد» حمله الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون إلى قمة تونس، وتحدث أمام الحاضرين بحسرة وتحسّر عن قوى أخرى تحلّ محل فرنسا في مناطق نفوذها التاريخية، تحدث عن روسيا بالذات واتهمها بـ «ممارسة نفوذ متوحش في الدول الإفريقية المضطربة» متناسياً بكل صفاقة تاريخاً فرنسياً طويلاً، دموياً ومتوحشاً، ضد الدول التي كانت تستعمرها بلاده في القارة الإفريقية تحديداً، إلى جانب قوى استعمارية أخرى مارست التوحش نفسه، وأبرزها بريطانيا التي اختلقت أيضاً ما سمته «الكومنولث» للغايات الاستعمارية نفسها، أي دوام الهيمنة وضمان الاستمرار في سلب ونهب خيرات المستعمرات السابقة.
أيضاً يتناسى ماكرون أن روسيا لم تدخل أي دولة، كقوة استعمارية، وإنما كقوة بناء تحمل المشاريع الاقتصادية، وتحمل العدالة والمساواة في المنافع والمكاسب..أي إنها تبني الحامل الاقتصادي، القوة المالية، الاستقرار الاقتصادي، الذي يقود إلى الاستقرار السياسي والاجتماعي في دول يعترف ماكرون نفسه أنها مضطربة، لكنه لا يعترف بمن يقف وراء استمرار الاضطرابات التي لا تخدم سوى قوى استعمارية إر*ه*ابية مثل بلاده.
لا يعترف ماكرون بأن المستعمرات السابقة باتت في وضع تستطيع فيه تحديد أو تصحيح خياراتها، والخروج من وهم أن فرنسا لم تعد قوة استعمارية كبرى، فرنسا على مدى عقود طويلة- بعد حصول المستعمرات السابقة على استقلالها – لم تكن إلّا قوة تدمير وتخريب.. لكنها اليوم عاجزة عن أن تستمر كذلك، العالم يتغير، وموازينه تتغير، وأكثر ما تخشاه فرنسا أن تخرج كلياً من خريطة العالم الجديد.. لذلك هي تتمسك بأوهام قدرتها على استعادة الحضور من خلال تنظيم قمم أو أحداث أو اتفاقات أو مبادرات دولية، مثل الفرانكفونية.
القمة الفرانكفونية رفعت موضوع «الرقمنة» بوصفها «محركاً للتنمية» والمفارقة هنا أن معظم الدول الأعضاء ليس فيها تنمية، وفرنسا التي ترزح – كما نظيراتها الأوروبيات- تحت وطأة الحرب الأوكرانية، لا تملك الأموال لتحقيق التنمية فيها، لا قروض ولا مساعدات، وهي استمرت طوال العقود الماضية تدمر كل عملية تنمية في مستعمراتها السابقة، وتدعم الصراعات والاضطرابات فيها، فكيف تريد اليوم دعم التنمية فيها وهي لا تستطيع ولا تملك مقومات المساعدة.. طبعاً هذا في حال افترضنا حسن النيات لديها، وهي ليست كذلك على الأكيد، ولا يمكن للفرانكفونية إلّا أن تكون مشروعاً استعمارياً في خدمة فرنسا.
وبالتالي فإن الفرانكفونية كـ«مشروع مستقبلي» كما تحدث ماكرون أمام القمة، هو مشروع محكوم بالفشل إلّا إذا:

1- كانت فرنسا تعول في مسألة التنمية والدعم على غيرها من الأعضاء المراقبين أو المشاركين، كالإمارات التي كانت حاضرة في هذه القمة، وفي هذا الهدف تضرب عصفورين بحجر واحد، الأول: استعادة الحضور في المستعمرات السابقة، والثاني الاحتفاظ بمكانة لها على الساحة العالمية قبل أن تضع صراعات القوى الدولية الكبرى أوزارها.
2- إلّا إذا.. كانت فرنسا تعول على سياسات جديدة تعتمدها لمنع تسرب دول أخرى من بين أيديها كما حدث في مالي، لكن هذا الأمر يحتاج سياسات دولية جديدة، خصوصاً مع روسيا والصين، وهذا يستدعي الابتعاد عن المحيط الأوروبي، وعن الولايات المتحدة الأميركية بطبيعة الحال، وحسب السياقات والتطورات، ربما فرنسا باتت مستعدة لتغيير جلدها، وتمثل قمة الفرانكفونية في تونس منبراً لإرسال الرسائل بهذا الخصوص إلى من يعنيه الأمر.
3-إلّا إذا.. كانت فرنسا ستبتعد عن عقليتها الاستعمارية وتتبنى مساراً لا يغذي الاضطرابات والصراعات الداخلية، وتعمل فعلياً على حلّها عبر وساطات شفافة ونزيهة ومؤثرة.. علماً أن قمة تونس لم تشِ بالكثير في هذا المجال، إذ إن هذه الاضطرابات والصراعات لم تكن حاضرة، باستثناء لوم فرنسا عليها، والمقارنة بين موقفها منها وموقفها من الحرب الأوكرانية واصطفافها مباشرة إلى جانب أوكرانيا ضد روسيا، وهذا ما لا تفعله في مستعمراتها السابقة التي تتركها نهباً للاقتتال والفقر والجوع.
بكل الأحوال، وفي عودة إلى الفرانكفونية تحديداً، ومستقبلها.. لقد كان ماكرون واضحاً عندما تحدث بواقعية واعترف أن الفرانكفونية تعرضت لنكسات كبيرة وأن الدول الأعضاء فيها بدأت تشهد نوعاً من «المقاومة شبه السياسية» حسب وصف ماكرون، إلى جانب طغيان اللغة الانكليزية كلغة مال وأعمال وثقافة وفن، وحتى سياسة.
مع ذلك يكابر ماكرون ويتمسك بأوهامه، وبأنه قادر على انتشال الفرانكفونية من نكساتها، رغم أن الجميع يصارحونه في الكواليس، وينصحونه بالاكتفاء بالرمزية التي باتت عليها الفرانكفونية، من دون الحديث عن مستقبل لها، وينصحونه أيضاً بأن كل ما يستطيع فعله هو محاولة نسج علاقات وسياسات جديدة مع «الدول المستهدفة» على هامش كل قمة للفرانكفونية.. هذا فقط ما ستكون عليه الفرانكفونية ولا شيء آخر.
أكاديمي وكاتب عراقي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار