لماذا غياب العقل الاستراتيجي العربي؟
تشرين- د.رحيم هادي الشمخي:
يعدّ التفكير الاستراتيجي قمة الكفاءة الذهنية، من حيث القدرة على التحليل والتوليف والرؤى بعيدة المدى، وبناء تصورات عالية التعقيد للواقع بحيث تستوعب قواه الأساسية ودينامياته المحركة، وتحكم بتسييرها وتغييرها خدمة للمصالح بعيدة المدى.
لكن العقل العربي لا يبدو أنه يدخل ضمن ما سبق، بل هو على النقيض منه، يبدو أسيراً لفكر «تدبير الحال».. فهذا المصطلح على إيجازه يكتنز الكثير من الأضواء والظلال بما يرسم صورة محزنة لأمة تدبّر حالها يوماً بيوم، بينما هناك من يتربص بها بكل أدوات التربّص ونيّاته وأهدافه، ويبني تربصه على أبعاد استراتيجية تمتد إلى عقود، لا بل قرون، وتجعل من يكتفون بفكر «تدبير الحال» في خط عاجل وليس آجلاً، ينهارون تحت ضربات معاول قليلة، قد لا تكون ظاهرة التأثير في بواكير عملها، لكنها أكيدة الهدم، إن استمرت في ضرباتها.. وكم نتلقى من الضربات التي توجهها لنا معاول استعمارية وافدة من خارج حدودنا العربية، غير أن أخطر المعاول تبقى معاولنا، وما نهدمه نحن بأنفسنا، خاصة معول «هدر الفكر العربي» قصير النظر في التدمير، بعيد المدى في التأثير، وهو ما يقتضي منا نظرة مقارنة لنرى ما حدث في الغرب الأوروبي، لا على سبيل المثال والنموذج، بل لإثارة الحمية والفكر وإعمال النظر. ألا يكفي النظر إلى داخلنا نحن العرب على امتداد الأمة، لنعمل الفكر فيه؟ أليست حال فلسطين والعراق وسورية وليبيا والسودان واليمن والصومال ولبنان، تدفعنا لأن نُعمل العقل فيها قبل ردود الفعل والانفعال والصراع ومزيد من هدر الإنسان واضطهاد العقل والفكر؟
بالطبع إن إلغاء التاريخ، بما هو بناء الكيان، يجعل العقل العربي غير استراتيجي، فلا تخطيط بعيد المدى، ولا استيعاب للواقع في رؤى شمولية دينامية جدلية، وكيف يكون هناك تخطيط استراتيجي مع استفحال وضع «تدبير الحال»، ومداراة الحاضر بالحاضر، والتعامل مع التحديات والوقائع بردود الفعل.
لقد تلازمت ثمرة العلوم الإنسانية مع ثورة فلسفة العلوم، كي تجعل انطلاق المشروع الصناعي الكبير في الغرب ممكناً، وتوفر له الأسس والمقومات والمنهجيات والأدوات، فكانت ثورة الأنوار التي تابعتها العلوم الإنسانية، والتي أنجزت تحرير الإنسان الفرد من عصر الإقطاع والاستبداد السياسي وتحكّم الاستبداد اللاهوتي. وفي ظل واقع الأمة وما وصلت إليه من مآس ونكبات، لا بد من سؤال: أين العقل الاستراتيجي العربي اليوم؟ وفي حال أنه عقل غير موجود، أو لنقل لا يوجد من العوامل والمقومات والظروف ما يجعله موجوداً، كيف يمكن بناء خطط للنهوض بالأمة من واقعها السوداوي؟ وتالياً كيف يمكن إنقاذ مستقبلها وحمايتها من مؤامرات الغرب وخططه الاستعمارية لمحاصرتها ونهب خيراتها وثرواتها؟
هنا لا بدّ من القول: إن قصور التفكير العربي هو ما أدى إلى فقدان السيطرة على الواقع العربي، باستخدام فكر الأمة الذي غاب نتيجة عوامل داخلية وخارجية، فلم يتمكن الفكر القومي العربي من مواجهة الهجمة الاستعمارية الغربية، وهي التي بلغت- خلال العقدين الماضيين- منتهاها من الشراسة والوحشية في الإرهاب والتدمير، وكذلك لا بد أن نسأل عما تبقى من مفكري الأمة، وعن دورهم في إعادة العقل العربي الاستراتيجي وتذخيره لمقاومة الحملات الغربية المتواصلة وشديدة الوطأة لهدم الفكر العربي ودفع الأمة نحو الاستقرار في قاع لا تخرج منه أبداً.
كاتب من العراق