ملحّنُ الروائع فيلمون وهبي الضاحكُ الباكي في ذكرى رحيله
تشرين- سامر الشغري:
نمت الموسيقا وفنونها في لبنان، وازدهرت على يد فنانين تماهوا مع محيطهم الأوسع من تراث بلاد الشام وموسيقاها، فاستلهموا من روحه أجمل الأنغام، وفي طليعة هؤلاء يأتي الفنان الشامل فيلمون وهبي.
فيلمون الذي تمرهذه الأيام ذكرى رحيله السابعة والثلاثون ابن بار لهذه الأرض، فهو ابن كفر شيما في جبل لبنان، وتفتقت عبقريته الموسيقية بين مدن بيروت والقدس ودمشق، حتى طوّب شيخاً للملحنين وعراباً للأغنية الشعبية في بلاد الشام.
ولكن علينا ألا نحصر إبداع فيلمون بالأغاني الشعبية والزجل، إذ كان أول من التفت إليه من الموسيقيين، فلحن منذ الأربعينيات نصوصاً زجلية لرشيد نخلة وأسعد سابا، بل كانت له تجربة فريدة مع القصائد الكلاسيكية مثل لحنه الشهير لقصيدة يا عروس المجد للشاعر عمر أبو ريشة التي غنتها سلوى مدحت في الذكرى الأولى لعيد الجلاء سنة 1947.. ويبدو أن جهل الكثيرين بأعمال فيلمون غدا غصة عكرت عليه صفو حياته، فهو بعد أن تعرف على الأخوين عاصي ومنصور رحباني في بداية مشوارهما وغدا جزءاً أساسياً من منظومتهما الفنية كما قال منصور، ذابت ألحانه في زحمة أعمالهما التي أمضياها تحت اسم الأخوين رحباني.
ويلاحظ الباحث الموسيقي إلياس سحاب أن ألحان فيلمون لفيروز كانت تلمع كالجوهرة في التاج بمسرحيات الرحابنة، وهذه حقيقة لم ينكرها حتى الأخوان عاصي ومنصور الذي أكد أن ألحان فيلمون تأتي دائماً في الطليعة، ولكن المفارقة أن ألحانه لفيروز كانت تفوق في جمالها ألحانه لغيرها من المطربين، وعندما سئل عن ذلك قدم إجابات متناقضة، فأخبر سحاب أنه لا يعرف سبب ذلك، بينما أعاده في معرض رده على سؤال لمنصور بأن صوت فيروز غير الاعتيادي يجعله يقدم أفضل ما لديه.
لقد قدم فيلمون لفيروز 30 لحناً نصفها بعد عن انفصالها عن عاصي، وكانت سفيرتنا إلى النجوم تفضل ألحانه لشرقيتها المغرقة، فهو كان يعجنها من المقامات ذات أرباع التون الموغلة في شجنها، لذلك كانت تقول عنه فيروز إنه من أحزانه صنع ألحانه.
في رحلته مع فيروز نتذكر«يا كرم العلالي، وفايق يا هوى، وأسامينا، ويا مرسال المراسيل، ومن عز النوم، وبليل شتي، وورقو الأصفر، وطلعلي البكي، ويادارة دوري فينا، ويا ريت..» التي كانت آخر ما لحن لفيروز.
فيلمون الذي ولد سنة 1918 بدأ رحلته مع الفن مطرباً، وجد أن صوته ليس بوسعه منافسة محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ووديع الصافي، فمال إلى التلحين وقدم أروع الأعمال، فلحن لوديع«بترحلك مشوار وحلوة وكدّابة و هالدلعونية» وغيرها، ولنصري شمس الدين«هدوني ومنتزاعل ومنرضى»، ولصباح التي لحن لها 200 أغنية منها «دخل عيونك حاكينا وعالعصفورية وجينا الدار»، ولنجاح سلام «برهوم حاكيني والشاب الأسمر جنني»، ولعصام رجي «يا بو الخلخال» و لعازار حبيب «من أيا ملك» ولسميرة توفيق «يا هلا بالضيف»، ولمروان محفوظ «طلي بها الليل»، كما لحن للكثير من المطربين السوريين فقدم لفهد بلان «عباية مقصبة» ولموفق بهجت «قالوا عنك درويشة»، وكان سباقاً في التلحين لمطربين مصريين باللهجة اللبنانية فقدم لشريفة فاضل «حبيبي نجار».
ميزة فيلمون في التلحين حددها أحد تلامذته الكبار، وهو الموسيقار الراحل ملحم بركات الذي رافقه 18 عاماً، عندما استعاد وصيته له بأن يلحن ما يردده الناس لا ما يسمعونه فقط، فكان لا يعتمد الجملة اللحنية إلا بعد أن يحفظها أطفال يجدهم حوله، ليكون بذلك أحد رواد التبسيط النغمي.
فيلمون الذي كان نجم مسرحيات واسكتشات الرحابنة بفضل شخصية الريفي البسيط «سبع»، قدم أيضا أدواراً مختلفة فيها، فهو «أبو جرجي» في فخر الدين المعني الذي يقول لزوجته «لا أنا خرجك ولا إنتي خرجي..يا ريتك خدتي الطنبرجي»، والمحامي في الشخص الذي يقول لبياعة البندورة «اللي بيدفع بندورة دعوته بتروح سلطة»، مع الإشارة بالطبع لأغنياته الكوميدية الناقدة مثل «السنفريان وكشوا الدجاج»
حب فيلمون لسورية جعله يزورها باستمرار، وينمي صداقاته مع مختلف شخصياتها الفنية والأدبية فيها، ويمارس في ريفها هوايته التي أحبها لدرجة الشغف، وهي الصيد، حتى إنه عندما مرض مرضه الأخير ونصحه الأطباء بإجراء العمل الجراحي رفض ذلك وطلب تأجيله، لأن رفاق الصيد ينتظرونه، وموعده قد حان.
وشاء القدر أن يودع فيلمون الدنيا بعيداً عن قريته التي أحب من جراء الحرب الأهلية اللبنانية، وعن الياسمينة التي زرعها في بيته وكان يحبها كثيراً، وألف أغلب ألحانه وهو يتفيأ تحت ظلالها، فظهرت كطيف يذكره بأيامه الجميلة في أغنية آه من البواب لفيروز:
«في باب غرقان بريحة الياسمين
في باب مشتاق في باب حزين
في باب مهجور أهلو منسيين
هالأرض كلها بيوت يا رب خليها مزيّني ببواب»