هل تدفع أوروبا فواتير تبعيتها لواشنطن فقط؟.. ماذا حل بالعالم الأخضر؟
ميشيل كلاغاصي
نتيجة الثمن الكبير لإنخراط الاتحاد الأوروبي في الحرب على روسيا، وما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية والمعيشية في جميع الدول الأوروبية، وتردي اقتصادياتها، وأزمة الطاقة التي ورط القادة الأوروبيون أنفسهم بها، والعقوبات غير المسبوقة على روسيا، وبالدعم المالي والعسكري والسياسي والإعلامي لحكومة النازيين الأوكران، والذي يبدو بلا نهاية، وكل ما من شأنه دفع الأوروبيين نحو طريقٍ مجهولة ومستقبلٍ غامض، يهتم بعض الأوروبيون بالحديث عن النفاق والخداع الأمريكيين، اللذان تعرضا له، وعن الهيمنة الأمريكية، التي كانت وراء انخراطهم بالحرب على روسيا، وفرض هيمنتها عليهم، وسبق للرئيس الفرنسي ماكرون في فترة رئاسته الأولى أن تحدث مراراً عن رغبة فرنسا بالسير «بعيداً عن سياسة الولايات المتحدة»، كذلك فعلت المستشارة أنجيلا ميركل أثناء فترة توليها منصبها، وتحدثت عن ضرورة «استقلال القرار الأوروبي».
واليوم يفتح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، «النار» على الولايات المتحدة، ويتهمها بتصدير موارد الطاقة بأسعار أعلى بكثير من أسعارها المحلية، في حين أكد وزير المالية الفرنسي برونو لومير، أنه «على باريس ألا تسمح لواشنطن بالسيطرة على الاقتصاد على حساب الاتحاد الأوروبي»، في الوقت الذي انقلب فيه المستشار الألماني أولاف شولتس على نفسه، وتحول فجأةً إلى أحد المعجبين بالحزب الشيوعي الصيني، وحاول إخفاء حقيقة هدف زيارته لبكين، وسط احتمالية إرساله رسالة مباشرة للرئيس الروسي عبر صديقه الرئيس شي جين بينغ، تعكس تغير مواقفه من روسيا.
لا يجد الأوروبيون حرجاً في تزييف الحقائق والوقائع، وهم يلقون اللوم على الولايات المتحدة الأمريكية، في عالمٍ حولوه سويةً إلى غابة يسودها الانهيار الأخلاقي قبل الانهيار السياسي، أليس الأوروبيون هم من دفعوا ممثليهم في الأحزاب الخضراء للتغلغل داخل الحكومات الأوروبية، وروجوا عبر شعارات «أنقذوا المناخ» و«أنقذوا العالم» وغيرها، لأجل عالمٍ «نظيف»، لكنه خبيث ويبحث عن تمهيد طريق المخطط الكبير ضد روسيا، ألم تكن هذه الشعارات بمثابة القصف التمهيدي للاستغناء عن خطوط وإمدادات الغاز الروسي.
لقد استطاعوا غسل عقول ناخبيهم، وإقناعهم بروعة استخدام ووضع طواحين الهواء والألواح الشمسية في كل مكان للحفاظ على البيئة والمناخ من جهة، وللتخلي عن الفحم والغاز والوقود والنفط والطاقة النووية من جهةٍ أخرى، وقدموا صورة جميلة لمستقبل أخضر، وتم استغلال ذلك لجبي الضرائب من جيوب المواطنين، ومن ميزانية الدول، على حساب عشرات الأولويات التي تنتظرها الشعوب الأوروبية من حكوماتها.
تأخر الأوروبيون لاكتشاف خداع قادتهم، وهم ينتظرون هبوب «الرياح» الخضراء، وظهور «الشمس» من خلف الغيوم السياسية، وتأكدوا من أن تضخيم مساوئ وأضرار اعتمادهم على الغاز لم يكن بريئاً، وبأن كل ما يحصل حولهم هو لخلق المبررات وبشكل مسبق لما هو آت، وبالفعل لم يتأخر شهر شباط 2022، وبدأت حزم العقوبات على روسيا تتوالى بسرعة كبيرة، لم تمنح أحداً فرصة التفكير في «الجرم» الروسي و«العقاب» الأوروبي، وسط لهاثم وراء ابتكار أساليب وآليات لرفض الغاز الروسي، على إيقاع الاعتراف بـ«ديمقراطية أوكرانيا»، وحقها بالانضمام إلى حلف «ناتو»، وبتلاعبها بأمن روسيا القومي والحيوي، ونسفها لاتفاقياتها السابقة مع الدولة الروسية، والتجاهل الأوروبي التام لجرائمها بحق الأوكران الروس.
هل يبحث الأوروبيون حقاً عن الابتعاد عن الولايات المتحدة، وباختيار طريقهم الخاصة؟، من دون أدنى شك هم كاذبون، ويتشدوقون بذلك على غرار تركيا، كلما تلقوا صفعةً أمريكية ساخنة، ومع ذلك يسعون للحفاظ على شراكتهم المتوحشة معها، التي تم إبرامها بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية، وكانت ولا زالت مصدر قوتهم وغطرستهم.
كذلك الأمر بالنسبة لواشنطن، التي «لا تنوي مغادرة أوروبا لفترة طويلة» بتأكيد الرئيس جو بايدن مؤخراً، وبأن انتشار قواتها وقواعدها في القارة العجوز، هو تجسيد فعلي «للاستثناء الأمريكي»، الذي يشكل جوهر فلسفة الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي القائم على «القواعد» -حسب مصطلحات إدارة بايدن – والذي لا يعني رجوع أو التزام أمريكا بقواعد القانون الدولي أو الوثائق القانونية للأمم المتحدة، ومع ذلك، لا يهتم القادة الأوروبيون بذلك، ويتمسكون بقواعد مجردة مبتكرة تخدم سياساتهم الآنية فقط، وتعلو أصواتهم بالقانون الدولي إن تعلق الأمر بأوكرانيا أو «إسرائيل»، ويخرسون عندما يتعلق الأمر بتايوان أو سورية أو إيران أو روسيا والصين.
هذه «القواعد المبتكرة» دفعتهم نحو سياسات بيئةٍ فاشية بإمتياز، أجبرت وزير الطاقة الخضراء في ألمانيا روبرت هابيك، على ابتلاع سياساته وحزبه المعلنة، وزيادة مشتريات بلاده من الفحم وإعادة تشغيل محطات الطاقة، بعكس ما تم الترويج له منذ عهد ميركل، وشكل أحد المحرمات في برنامج حزب الخضر الانتخابي، والأمر ذاته ينسحب على ماكرون الفرنسي، الذي أغلق 17 محطة توليد للطاقة النووية، لصالح مراوحه التي صدأت وهي مرمية في شوارع المدن الفرنسية، وعاد مؤخراً لتشغيل بعض محطاته النووية، وكأن شيئاً لم يكن، سوى أنه أذل مواطنيه أمام محطات البنزين، وتضاعف عدد الفقراء، ومن لا يستطيعون شراء لقمتهم اليومية، فتظاهروا وطالبوا بزيادة رواتبهم، وبرحيل ماكرون.
وما بين فرنسا وألمانيا، انقلب المشهد المعتاد، فبدأت فرنسا باستجرار الكهرباء من ألمانيا، وبتزويدها بالمقابل بالوقود والطاقة النووية لإنتاج الكهرباء، وسط دعوة المفوض الفرنسي للسوق الداخلية في الاتحاد الأوروبي، تييري بريتون، الحكومة الألمانية إلى «ترك الإيديولوجية وراءها» وإطالة عمر محطات الطاقة النووية الثلاث المتبقية.
وبات من اللافت، اختفاء الحديث عن الطاقة الخضراء، والمناخ والبيئة.. إلخ، واتضح حتى لمن لا يبصرون، أن الأمر كله بالقرار الأمريكي للحرب على روسيا واستهداف توريداتها من الطاقة والغاز والاستغناء الكلي عنها، بهدف تدمير الاقتصاد الروسي، ومن أجل «تحطيم» الرئيس بوتين وكسر إرادته والإطاحة به.
يا لهم من قادة وساسة، يتعاقبون على الحكم بتصويت الناخبين، المخدوعين ببرامجهم الانتخابية، فما الذي سيقوله مؤيدو «العالم الأخضر» وهم يرون الوزير هابيك يضحي بالمناخ، والبيئة، والمراوح والسيارات الكهربائية، وبالعالم «الوردي»، وهو يرى حياة مواطنيه، ومصالحهم، ومعاملهم وشركاتهم تمضي نحو الجحيم، لأجل شراء الغاز الأمريكي المسال، وبالأسعار المرتفعة التي أزعجت ماكرون في العلن، وقد تكون أطربته سرّاً، فقط لأجل محاربة روسيا.