“أمبرتو إيكو”: تحويل “اسم الوردة” إلى فيلم خيانة من نوع ما
بديع صنيج
لم ينشغل المفكر والروائي الإيطالي “أمبرتو إيكو” كثيراً بتحويل روايته “اسم الوردة” إلى فيلم من إخراج الفرنسي “جان جاك أنو”، إذ إنه مُدرك مُسبقاً أن تحويل خمسمئة وخمسين صفحة إلى فيلم لا بُدَّ سيتضمن خيانةً من نوع ما، لذا عدّ صناعة شريط سينمائي يتشظى من بركان نصه الروائي “مغامرة مسلية”، كما عبَّر ضمن حوار معه نشر في المجلة السينمائية البريطانية “Sightand Sound”، لكنه بعد ذلك لم يُخْفِ غَيْرَتَهُ من الفيلم على الرواية، بدليل رفضه تحويل روايات أخرى له إلى أفلام سينمائية، خاصةً أنه طفق تهكُّماً على قصة فتاة رقصت بعد أن رأت رواية “اسم الوردة” في المكتبة، وهتفت: “يا إلهي لقد حولوا الفيلم إلى كتاب”.
ومع ذلك بقي “إيكو” مُلتزماً الحياد كلما سئل عن الفيلم، مُتذرِّعاً بالقول ضمن أحد حواراته “لا أستطيع أن أجاري كل الاستعدادات التقنية، ولا أظن أن على المؤلف أن يصبح مستغرقاً أكثر مما ينبغي في الإعداد للسيناريو المأخوذ عن أحد أعماله، خصوصاً –كما في حالتي- عندما يتألف الكتاب الأصلي من 550 صفحة، والذي يتعيّن تصويره كفيلم إلى اختزاله.
إن ذلك أشبه بجرّاح يحتاج وَلَدُهُ إلى إجراء عملية جراحية لكنه يكلّف زميله بإجرائها لأن يديه سوف ترتعشان. إني أفضّل أن أرى الفيلم وهو يشق طريقه ويخلق اتجاهه الخاص على مهل. على سبيل المثال، من بين المعالجات الـ 14 من السيناريو، قرأت المعالجة 12 و13 فقط. لكن حتى في تلك الحالة كنت أبدي فقط بعض الملاحظات غير المباشرة.
وفضلاً عن عدد صفحات الرواية الكبير، والثيمة البوليسية التحقيقية المشوقة التي تتضمنها، إلّا أن أبعادها الفلسفية، ورؤاها التاريخية، حاضرة بقوة، وهي ما شكَّلت تحدياً للصورة السينمائية، فالروائي الإيطالي فيلسوف في الأصل ومؤرخ للفلسفة، وعبر “اسم الوردة”، التي تدور أحداثها في سبعة أيام من عام 1327م، رَسَمَ صورة عميقة وجذابة للمناخات الفكرية السائدة في ذلك العصر، ولاسيما في أجواء الطوائف الهرطوقية، وفضاء الصراع على السلطة داخل الكنيسة نفسها، والذي تجلى في الرواية ضمن عوالم الدير المغلق على نفسه، والذي “تدور الأحداث في داخله مع عين مفتوحة على العالم كله”، كما يُعبِّر الناقد “إبراهيم العريس”، فالجرائم التي تحدث في الرواية على علاقة مباشرة مع أرسطو ومنطقه، وتحديداً عن طريق تفسيرات ابن رشد الأندلسي له، والمحور الأساس هو مكتبة الدير، التي تبدو كالمتاهة بغموضها، لكنها في الوقت نفسه، كما يشير “إيكو”، متبنياً رأي مؤرخ العصور الوسطى الفرنسي “جاك ليغوف”، “هي المكان الذي يولد منه العصر الحديث، هذا العصر الطالع من رحم فكر أرسطو وجهود ابن رشد”.
هذا البعد المُركَّب فكرياً كان لا بُدَّ له من موازٍ بصريّ قادر على مواكبته، وهو ما شكَّل تحدياً كبيراً للمخرج “جان جاك أنو”، ليس على صعيد الزمن، ومواقع التصوير، والشخصيات، وإنما على صعيد المعنى بشكل رئيسي، ولاسيما أن الجرائم التي تحدث سببها الأساسي منع ولادة العصر الحديث. تلك الولادة التي ارتبطت مع الضحك كوسيلة لانبعاث حرية الفكر لدى الإنسان، والضحك في بعده الإنساني يتأسس داخل كتاب الكوميديا لأرسطو، الذي يحاول رجعيو الدير إخفاءه، فيما يسعى رجال دين آخرون إلى قراءته وسط ظلام المكتبة، ليصبح ذاك الكتاب الأداة التي يستخدمها الرجعيون لقتل دعاة التنوير. وهذا ما سيكتشفه “دي باسكرفيل” مع تلميذه “أدزو”، غير أن هذا سيؤدي إلى احتراق المكتبة، لكنه في الوقت ذاته سيكون إشارة حقيقية إلى انبعاث عصر النهضة.
اللقطة السينمائية تُكثِّف الكثير من الصفحات بكل تأكيد، وتعبير في وجه ممثل قادر على اختزال آلاف الكلمات، وحركة كاميرا واحدة قد تغطي مساحات زمنية شاسعة من السرد الروائي، لكن الجميل في رواية “اسم الوردة” أنها مكتوبة بطريقة أقرب إلى التصوير، بمعنى؛ إن لغتها بصرية مُحفِّزة على الخيال، وبين الصمت والكلام اشتغل المخرج “أنو” فيلمه بحساسية عالية، وبحركة كاميرا بليغة، ولقطات مأخوذة بميزان الذهب، مُحافظاً على “الحبكة البوليسية بصيغتها التنويرية”، ولعلّ رفض صاحب “مقبرة براغ” تحويل أي من رواياته الأخرى إلى أفلام يعود إلى تلاشي توقه لمشاهدة الأعمال السينمائية، ولاعتقاده أنه من المهم ألّا يصدر أحكاماً عليها في ضوء المقالات النقدية أو الانطباعات أو على أساس الموضة والنمط السائد، لدرجة أنه لا يعرف ما إذا أعجبه فيلمٌ أم لا، بعد مشاهدته مباشرةً، وأحياناً قد يستغرق هذا شهوراً، ويُعيد ذلك بلغته المرحة أنه جاء من “بيدمونت”، أرض الإيطاليين الشماليين، البطيئين والعنيدين إلى حدٍّ ما، لذلك بات بحاجة إلى وقت لكي يعبّر عن نفسه، ويجد مشقّة في امتلاك رأي أو وجهة نظر بشأن سينما اليوم. ومن الهروبات الجميلة للتعليق على رأيه بفيلم “أنو” المأخوذ عن روايته أجاب في أحد الحوارات: “لم أفكر أبداً في تحقيق فيلم سينمائي، لكن ينبغي أن أضيف، حتى قبل يومين من شروعي في كتابة “اسم الوردة”، لم أفكر أبداً في كتابة رواية. ربما حين أبلغ الثمانين من العمر سوف أخرج فيلماً.. مع إنني أعلم جيداً أن هذا سوف لن يحدث على الإطلاق. هذا لا يعني أنني لا أمتلك خبرة، فقد عملت في التلفزيون منذ 1954 إلى 1959. كنت موظفاً، لكنني كنت أتابع بانتباه المخرجين في الاستديو وفي المواقع الخارجية. ومع إن ذلك كان في الماضي البعيد إلّا أنني فهمت أن هذه المهنة ليست مهنتي، فأنا نافد الصبر، قليل الاحتمال إلى حدٍّ بعيد، كما أكره الوقت الساكن حيث لا شيء لديك لتفعله.
احتمال أن تكون في الموقع في الساعة الثانية بعد الظهر، وأن تضطر للانتظار حتى الثامنة مساءً لأنك تحتاج إلى غراب أسود لكنهم أرسلوا إليك غراباً رمادياً. هذا سوف يدفعني حتماً إلى الجنون، ولسوف أغيّر الفيلم وأجعل الغراب أَسَداً لو مرّ هذا الأسد قربنا. وللسبب ذاته، أجد صيد الأسماك عاملاً مهدئاً للروح، لكن إذا تعيّن عليّ أن أجلس هناك ساعات فأظن أنني سوف أباشر بتفجير الأسماك بالديناميت. عندما أكتب، أخلق إيقاعي الخاص مع الورق والآلة الكاتبة، لكنني لا أظن أن إخراج الأفلام، أو حتى المسرحيات، شيء جذاب أو فاتن بالنسبة لي”.