مُشعلةً الزيت في كفّ الأمنيات أميرة إبراهيم في جولة يُشرق فيها الحرفُ جمالاً

راوية زاهر
(طافحاً بالشدو) مجموعة قصص قصيرة جداً للكاتبة والناقدة السورية أميرة إبراهيم، الصادرة عن دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع.
وقبلها كان صدر لها العديد من الإصدارات: “خطوات في المدى، أبعدوا عني احتراقاتي، ورواية /كاجين / قيد الطبع”.
(طافحاً بالشدو)؛ كتاب حوى بين طياته مئة وسبع وعشرين قصة قصيرة جداً، تنتمي إلى عالم الوجيز، تنوعت شواغل الإبداع فيه والمواضيع، وقد غاصت في عالم الحرب ومفرزاتها من ضياع وقتل وتدمير وتشريد وتشظٍّ، كما تنوعت الأمكنة بين الخيام وركام المدن، والبيوتات الطافحة بالحزن والألم والظلم، وحالة التوجس من انقطاع الحبل السري لقادمين مستشعرين بظلم الحياة وويلاتها.. حملت المجموعة عنواناً (طافحاً بالشدو) العتبة النصية الأولى للكتاب وما تحمله من تأويلات نصية ومعنوية تقودنا إلى عمق المجموعة.. فـ(طافحاً) لفظٌ حمل وزن اسم الفاعل، ومعنى الفيض من الشيء، وهذا الشيء الطافح كان الشدو الذي يُستمدُّ عادة من الفرح والغناء والأمل، وما أثار الشجن، أن المجموعة بأعداد قصصها التي تجاوزت المئة لم يكن هناك أي وجود لفرح، فالقفلات المُدهشة لكلِّ القصص؛ كانت تُغرقنا في تراجيديا مُركبة، لا ينتهي أثرُها النفسي بسهولة.
وكان أهم ما يميزُ هذه القصص القصيرة جداً؛ هي حكائيتها التي تفتحُ آفاقَ الفكر عند المتلقي،
مسترسلةً في عرض تاريخ شخصيةٍ واحدة على الأقل في كلِّ نص من خلال سيرتها في لحظةٍ معينة، لحظة التحوّل ذاتها، بشكلٍ مُختزل جداً من داخل الحدث..
أزمنتها واضحة، وجُلّها يعودُ إلى زمن الحرب، ومكان الخيام، والشوارع المكتظة بالركام والجثث والجماجم، والبيوتات المغلقة على أوجاع ساكنيها من نساءٍ يلكن حزنهن وعوزههن وفقرهن، إلى توائم تفقد نصفها في لحظات الانفجارات الكبرى.
كما تناولت هذه القصص القصيرة جداً مادتها من قلب المجتمع تاركةً الكثير من الفراغات ليملأها المتلقي، وما ذلك إلّا إشراك للقارئ في العملية الإبداعية.. وقد برزت قضايا المرأة جليةً، فكانت الأم والضحية والسبيّة والمظلومة كقصص: (مأدبة، تدوير، تلوين، جريرة، تلاشٍ).. وكان للإيحاء حضوره اللافت، أضف للاقتصاد في اللفظ والعمق في الرؤى والمعنى، لينصهر المعنى واللفظ في بوتقةٍ أدبيةٍ واحدة.. وهذا نص بسيط يوقفنا على أهمية النهايات الصادمة للنصوص القصيرة جداً، وهو بعنوان (ترقب):
(وقفتْ في نهايةِ الممر؛ تلملمُ أشياءها، عيون تتوجسُ، شفاهٌ تلوّت، نظراتُ استغراب.
عند سقوطِ شعرُها المستعار، لملموا ذيولَ الخيبة).
نص يحملُ في عنوانه حالة من التلصص على شخصية أنثوية ما كعادة بيئة يثيرُ لعابُها أي تصرف لأنثى، لترمُقها النظراتُ، وحالة التوجس، لأسبابٍ غامضة.. والمفارقة هنا قد قامت على جريان الحدث بشكلٍ عفوي، على حساب أشياء أخرى هي المقصودة، وهي ثنائية درامية لجأت إليها الكاتبة لإظهار عكس ما تعنيه.. أما الحالة؛ فهي حالة الوعي في ذات الكاتبة لما تُودُّ الإخبار عنه، وما تملكه من دقة الملاحظة، ورهافة الحس، محاولةً إخمادَ كلّ الاحتمالات، وصولاً إلى الخاتمة عبر تقاطع مخزون الذاكرة عند المتلقي وما ترغبُ الكاتبة في التمهيد له.. أما الخاتمة، وهي غاية النص وهدفه؛ فقد جعلتَها الكاتبةُ متوهجةً، ومن خارج السرد.. إذ بدت كقفزةٍ من داخل النص إلى خارجه الإدهاشي.. والشعر المستعار هذا سيقودُ المتلقي، وحتى الموغلين في اللقطة الدرامية إلى الشفقة ربما، وتقريع الذات، ربما حالة التراجيديا التي يُثيرها مريضُ السرطان، وخاصة المرأة، وقد ضربت الكاتبة على الوتر الحساس للقضية، وهو الشعر المستعار عند المرأة..
أما اللغة فبسيطة في هذا النص، وفي كلِّ النصوص؛ فجاءت مُعبّرة، تخرجُ اللفظة من قمقمها المعجمي إلى دلالاتٍ لفظية وشعورية واسعة وموحية.. وقد برزت في نصوص المجموعة ألفاظُ المعجم اللغوي للحرب بكثرة. مثل (الجثث، الجماجم، الخيمة، سفك الدماء، ركام، المدافع، غبار القذائف، صوت النحيب، ونزوح)..
كما برز في أغلب النصوص، لا بل جُلّها ملمحان أساسيان للقصة القصيرة جداً، هما: (قصر الحجم، والنزعة القصصية).. فيما الرمز برز عندما تحدثت عن العدو الصهيوني، وقالت دون إفصاح: (نجمة سداسية) في إيحاء واضح لعلم ذلك الكيان..
أدخلتنا الكاتبة دهاليز الخيال، وأطلقت لمخيلاتنا عنان الفكر والتفكر والتخييل في آن معاً؛ فأثارت المشاعر عند المتلقي، وذيّلت الكاتبة أميرة إبراهيم صفحات مجموعتها القصصية بالعديد من القراءات النقدية لنقاد عرب متميزين في مجال القصة القصيرة جداً في الوطن العربي، إذ أدلوا بدلوهم وغاصوا في الكثير من نصوص المجموعة ووقفوا على قفلاتها المدهشة ومفارقاتها الجذابة وحالتها الشائقة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار