“يتبعهم الباكون” لفاطمة العطا الله.. هويةٌ شعرية لصوت الياسمين
تشرين – راوية زاهر:
“إلى المتعبين جميعاً وأنا منهم..
إلى جناحين أحلّق بهما، أبي وأمي
إلى دمشقَ أولاً…
إليّ وأنا أختزن الريحَ في عمريَ الصّحراء.”
(يتبعهم الباكون) مجموعة شعرية للشاعرة فاطمة حيدر العطا الله – دمشق الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب – ٢٠٢٢م ، وللشاعرة مجموعة أخرى بعنوان (لإيلاف شعري – ٢٠١٧م)… وخلالها وبثلاثين نصاً جابت بها أرجاء التاريخ، بجاهليته وصدر إسلامه، بعصوره الذهبية والحديثة، مستلهمة من أسماء كبار شعرائها قصصُ الماضي والطّلول والحاضر ووجهه القحول، والوجع والضياع، والبكاء على مدارج الزمن بفرحه الغافل ومجده المهاجر في كلّ ليلةٍ صوبَ الأفول.
بدأتُ على غير العادة بعرض الإهداء، إذ وجدتُ فيه قصيدة لا تقل مكانة عن قصائد في جوف الكتاب، وذلك لروعة التصوير في اختزان الريح لعمرٍ يجانس في يباسه وحزنه الصحراء.
في العنوان
(يتبعهم الباكون)؛ كحالة تقليدية عنونت المجموعة بإحدى قصائدها، ولكن الأمر لم يقلل من اشتمال هذه العتبة النصية محتوى الكتاب، إذ تعد الشاعرة موفقة في هذا الاختيار، لما يحمله العنوان من تراجيديا الحزن، فالقصيدة يمكن أن نطلق عليها اسم القصيدة البكّاء، فهي تحكي حالة الحزين ومن عساه يرافقه غير أولئك التائهين، المتعبين، الحائرين، حاملي الهموم والرزايا.. (ويتبعهم الباكون) عنوان يأخذنا أيضاً إلى قوله تعالى في سورة الشعراء: “والشعراء يتبعهم الغاوون” كحالة تناص واقتباس معنى من القرآن الكريم، وقد قالت الشاعرة في أحد مقاطع القصيدة:
“إبكِ الطّلول،
فكلها تبكي طلولك..
موقعكْ
لا تخش عاقبة الهوى
غير النّوى
لن يتبعكْ
المتعبون… التائهون… الحائرون
هم معكْ
انضحْ بدمعك كلّه
غير البكا لن ينفعكْ.”
الجدير بالذكر أنّ الشاعرة تحمل ثقافة عالية، إذ استطاعت استنطاق الماضي بالعودة إلى أعلامه ورموزه الأقحاح سواء في مجال الشعر والأدب، أم في استحضار رموز التاريخ كزنوبيا، أو عقائديّا كمريم العذراء.. ففي الأدب كتلك القصيدة التي كتبتها رسالة إلى عمرو بن كلثوم، تحمل حروف حزنٍ منذ ستين عاماً على واقع نام على الضيم، في شكوى مواتِ النخوى، وبقاء القدس رهينة تحت عربدة العدو..
وقد حملت قصيدة الشاعرة عمق معاني قصيدة عمرو بن كلثوم وذات الوزن والقافية.. والتي مطلعها:
“ألا لا يجهلن أحدٌ علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا”
فعمرو هذا كان رجلاً ذا أنفة يأبى الضّيم والهوان، فنادته الشاعرة تحكي لسان حال قومها وقدسها المسلوب منذ ستين عاماً فقالت:
“أيا عمراً عساك ترى زماناً
رُميناً فيه نبكي عاجزينا
فهذي الشام تصرخ في جنون
وتلك القدس حزن يعترينا.”
وكذلك قصيدة أخرى تستلهم من سبب بكاء الخنساء ألف سبب لبكائها، فإن كانت الخنساء تبكي أخاها صخراً فشاعرتنا تبكي ألف صخرٍ، فقالت في قصيدة من وصايا الخنساء :
“مذ أول التّاريخِ نبكي كلنا
إن تقنع الأسباب أو لم تقنع
فتمتعي بالشعر حزناً وابتني
قصراً من الأنات حتى تشبعي.”
وكذلك وقفت عند عنترة مرتجلَ الشعر والفرزدق وغيرهما من الشعراء.. أما في مجال التاريخ فقد استلهمت من زنوبيا عودةً إلى التاريخ المكبّل بالأصفاد والوجع، زنوبيا المسبيّة الحزينة على بوابة الصحراء مقتادة غصباً إلى منفى بعيد، والوطن ساكن في داخل قلبها الملوّع الحزين فقالت:
“الآن يقتادونني
غصباً إلى المنفى البعيد
وأنا وتدمر في ضمير الأرض
نصرخ لا نريد
في داخلي وطن يؤجله الحنين.”
وكذلك توقفت عند صلاح الدين وطارق بن زياد ، يائسة من عودة الأمجاد، وما لا يمكننا المرور عليه مرور الكرام تلك القصائد العصماء التي تغنّت بها الشاعرة في دمشق وتجلّت في نصوص (ثورة، صراخ دمشقي) وغيرها من الأبيات التي تدل على عمق الانتماء إلى هذه المدينة الحزينة.. وهذه الأبيات من نص “ثورة” :
“دمشق أتسمعين صراخ روحي؟
وهل تدرين إن نوَتِ الرّحيلا؟
دمشق دمشق يا جرحاً وملحاً
ويا حملاً على ظهري ثقيلا
أنا يا شام أحترق اشتياقاً
ولم أظهر من الشوق القليلا.”
في الموسيقا
تنوعت مصادر الموسيقا عند الشاعرة لاسيما الداخلية منها متمثلةً بالمحسنات البديعية والتكرار وحروف الهمس، والتضاد الذي يعكس حالة الحزن والتوتر الحاد لنفسية الشاعرة المرتبطة جينياً بقضايا الأمة العصية على الحل:
“قد يضركّ ما يسرّك
أو يسرّك ما يضرّك
قد ترى الأيام تحلو
بعد ما يزداد مرّك.”
وكذلك استخدامها للتصريع في مطلع إحدى القصائد وهذا ما يمكن أن يكسب النص إيقاعاً وجرساً موسيقياً يطرب المتلقي كما ورد في قصيدة من ” تراتيل أمة” :
“أنتَ تدري أنهُ الروحُ الخشوع
وارتجاف القلبِ ما بينَ الضّلوع.”
أما الموسيقا الخارجية فبرزت جلية من خلال التنوع الراقي والجميل الذي انتهجته الشاعرة بين شعر التفعيلة تارة في تفعيلاتها المتناوبة القصر والطول، أو من خلال إتقانها أوزان الخليل وبحوره، بحروف رويّ تخدم حالتها الشعورية، وقافية طروب تستسيغ وتطرب لها الآذان..
وأمام لغة الشاعرة القوية التي تجنح في مجازاتها لا يعوقها وزن ولا معنى، أطربتنا بجميل لغتها الشاعرية وصورها واستعاراتها، من قبيل:
(رعاف قافية تسافر في يدي) استعارة مكنية، (بعض البلور في شفتي) استعارة تصريحية.. وللتشبيه البليغ وما يتركه من بالغ الأثر في نقل الأحاسيس وترجمة المشاعر حضورٌ باذخ (أنا طفلة مهما كبرت)، (عيناي كانون الحكاية) تشبيه بليغ إضافي.. وفي التحليقات المجازية الرائعة قول الشاعرة :(نفخ الصّباح بخافقي)،
(الشمس تخبز ضحكتي). وكذلك الاستخدام الكبير للخبر والإنشاء.. ومن أساليب الإنشاء:
(من أيقظ المخبأ
خلف جدران العيون؟
من أجهض الحلم المسافر في يديّ
حتى يموت؟)
إنشاء نوعه استفهام، وجاءت أهميته من خلال إبراز الحالة الانفعالية للشاعرة.. أما أسلوب الخبر فورد في قولها:
(وحدي… أطل على دمي)، (ورعاف صوتي ساخ)، ننوعه: خبر ابتدائي.. أضف لاستخدام الكاتبة أساليب التضمين والاقتباس وظاهرة الالتفات ببراعة، كما استخدمت تقنية التناص، إذ أحالتنا إلى قضايا معروفة ووسعت مدارك الفهم من خلال هذا التلاقح المعنوي والتعالق النصي العائد إلى نصوص معروفة اجتماعيّاً أو تاريخياً أو دينيّاً.. وذلك بالحديث عن عشتار أو قصة سيدنا موسى عليه السلام وأمه..فقالت:
“وأنا هنا؛
أمي الحبيبة دمعة من مخمل الضوء الرفيع،
وكأمّ موسى؛
حيث ألقتني على يمّ القصيدة والنضال.”
فيما التناص كان جلياً في قصيدة آخر ما قالته مريم:
“فلكم هززت النخل أرجو نخوة
فاسّاقطت خيباتُ روحي في الدّجى.”.