جودي حمدان العربيد.. مُبصراً في المعذبين مولد عصر الأقاحي
راوية زاهر:
(رحل السنونو) مجموعة شعرية للشاعر والقاص جودي حمدان العربيد، الصادرة عن الهيئة العامة السورية..
(رحل السنونو) عنوان المجموعة الشعرية المأخوذ تقليدياً من أحد عناوين نصوص الكتاب والذي يحمل بعداً رمزياً شفافاً يعيدنا إلى ذلك الطائر (البيتوتي) الذي يبني عشه في مداخن المنازل وبين شقوق الأبنية الترابيّةِ العتيقة المنتشرة في القرى النائية، وله مواسم للرحيل، ولشدة تعلقه بالمكان يكون لرحيله صوت الفاجعة.. فهل يا ترى اختار الشاعر هذا العنوان الدافئ الحزين لينقل لنا صورة وطن حزين، تشتت الكثير من “سنونه” البشري رغم تعلقهم بالمكان وعشقهم له؟. فمجموعة الشاعر العربيد تحتوي على ثمانية وأربعين نصّاً شعريّا، متنوعة الأفكار والرؤى والنتاج، وللوطن فيها الحصة الكبرى، متغنياً بطبيعته من سماء وجبال وغيوم ومساء، شموس وعيون وورود وأقاحٍ.. ناهيك بذاك الحزن الذي لفّ محيّاه وسلّمه للدمع والحزن والأسى مكمود الفؤاد، كسير الجناح..
وطن:
شرب الأسى والتاعَ بالوعد
الذي ضربوه لهْ
ما كان من وعدٍ سواه
فكم تذمّرَ دون أن يدري
بأنّ الليلَ مثلُ سحابة
تجري ولاتجري
كدمعٍ لوّعهْ”
وقد طالعتنا ظاهرة التّضمين لأقوال مأثورة لعظماء، مركونةً كدليل معنوي لقادمات السطور من النصوص التي تخصُّ شاعرنا على يسار صفحاتها العلوية ومنها:
“فلنبحث عن الرماد القديم للقلب المحترق”.. (نيرودا.)، والسؤال هنا: أيُّ رابط معنويٍّ يحملهُ هذا القول وهو متضمَّنٌ في نص شاعرنا (دمع الهوى) وفيه قال :
“ليسَ لي أن أبادلَ
كأس المساءِ بدمع الهوى
ربما في ليالي القفارِ
يضيءُ على حزنهِ الماءُ
حيث تعودُ النجومُ
تبثُّ الهنا”.
والأمر تكرر في نصين آخرين. وهما: “وداعاً للعيون التي أحببتُ والتي رافقتني حياتي.. ” ل. ياروسلاف سيفرت، متناغماً مع نص للشاعر بعنوان (غداً أحلى) .
أمّا في نصه الثالث ( في مرافعة الحلاج) وما يحمله هذا الرمز الأسطورة من دلالات خاصة.. كما تناثرت مقولة (سان جون بيرس) على يسار صفحته قائلاً:
“أبواب مفتوحة على الرّمال.. أبواب مفتوحة على المنفى ” في عمق هذا المعنى ما يثير لعاب القلق والسأم والظلمة والشمس التي تنازعها دجى المحن ِفي وطن يعيش في دياجير الأسى والاغتراب حزيناً ووجلاً .
استخدم الشاعر لغة الوصف السردي بطريقة بارعة، فوضعنا أمام مشهدية مدهشة لنص بعنوان (حصان المعصرة)، وقد تمتع المشهد بدقة الوصف وعفويته، فتركنا في ذهول تام أمام تفاصيل دقيقة:
“حاملاً يومهُ صخرة ً
كالحة
يسحب الخطوَ حبل مدى
خلفه أفعوانٌ تمرّس باللّدغ
دون هدى
خطّ سفراً من الابتهالِ
إلى نجمةٍ
بعدها قد محا
في صهيله طيفُ هدايا
وأخرى كنوح الرّحى”.
الشاعر تجاوز حدود عشقه الوطني وعيشه آلام بلاده إلى بلدان عربية أخرى ومنها لبنان وقد خصه بقصيدتين إحداهما حملت عنوان ( بيروت… ووحدي)،
والثانية (ويبقى الأرز):
أيا بيروت… غَيض البحر وجدا
“رعاك الخالدان بلا عقوقٍ
وُثوبُ الأرزِ رمحاً ليس يفنى
وفينيق تسامر في البروق”.
وأيضاً العراق الجريح متغنيّا بنخلاته الشامخات، عراق الحضارة والعلم وخيول الأباة.
وقد حلق الشاعر في سماء المجاز راسماً بريشة خياله أبهى الصور، مطلقاً العنان لفكره وشاعريته الفريدة بالتحليق عالياً واستنباط اجمل الاستعارات والتشبيهات والكنايات التي تسافر باللغة بعيداً عن الجمود المعجمي. وسنورد بعض الصّور الحسية والمعنوية الذهنية الساطعة البوح:
(وفيروز تحملنا نسمة فوق رمش النسيم).
(أرى في الفجاج صدى وردة في كآبتها)
(وردة كئيبة) أيّ تلوين لغوي جميل يحمله هذا المعنى.
وتر الليل، مثل نمل الجبال نمد الحروف جسوراً،
جدتنا النبيلة، حضنها أنشودة /تشبيه بليغ.
الليل غافٍ استعارة مكنية.
(ديانا :
البلاد تنام
(كأنّ على الرأس طيراً) كناية عن السكون والصّمت وعدم الالتفات لا يميناً ولا شمالاً.. وقد بدا للتناص حضورٌ مميزٌ في هذه المجموعة، إذا أعادنا إلشاعر إلى (غودو) وقضية الانتظار الأبدي للإنسان والبقاء على أمل دائمٍ، كما اعادنا إلى البسوس ونيرون وكسرى في نص (قضبان الليل) وسوداوية المشهد…ولم يبخل علينا الشاعر أثناء انغماسه في مكونات الطبيعة ومعجمها اللغوي بفائض اللفظ، والمصاحبات اللغوية: (الأشجار، الغمامة، مساء، شمس، العاصفة، زهرة الليلك، نخيل، رحل المساء، وغدت عيونه محبساً)
صورة تثير الجمال في لب القارئ.
ومن المصاحبات اللغوية (فرسان، ميدان)، (حضن رؤوم)، (ديك صياح)، (رحل السنونو).
فيما جاءت الموسيقا بنوعيها الداخلية متمثلة بحروف الهمس والتكرار، والخارجية بقوافيها الساكنة وما يحمله حرف الهاء من من لواعج الحزن الدفين.. وقد برزت الحالة الشعورية المفعمة حباً وحنيناً وحزناً بأدوات تعبيرية متنوعة غازية للنصوص، وكذلك برز الخبر بأنواعه (وقفت أمام التراتيل عليّ أبصر ُ إن كنت أحلم).. خبر ابتدائي..
والإنشاء باستفهامه المقصود محمِّلاً النصوص والألفاظ أكبر طاقة شعورية ومعنوية ممكنة، ومفرداً مساحة واسعة للإفصاح عن كل ما يدور في خلد الشاعر.. وأجمل ما قيل في تماهي الوصف بين الطبيعة والشاعر :
هل تذكرين.؟
وماأجمل الصيفَ..
هل تذكرين؟
وأنت كباقة نور
وفي الوهج أنا
كاشتعال القدور.