طفيليات الفوضى الراكدة
يحيلنا «الأدب» إلى معرفة الذات المختبئة خلف السائد، وبما أن الأخير لن يبني استمراره على إقامة علاقة جدلية مع الضد، فهو يسعى إلى تقديم نفسه كحمامة سلام من خلال تكريس الواقع، وهذا لا يخالف مهمة «الأدب» وحسب، وإنما يرتجل حالة من الفوضى الراكدة، القادرة على تعويم الطفيليات، لتلعب دورها التاريخي كحجر
عثرة بوجه أي مشروع نهضوي.
إذا كانت الأرقام هي المؤشر لدراسة الظواهر، فسوف تأخذنا الإحصاءات إلى حقيقة يقينية مفادها يُظهر أن الخط البياني للأدب -بمجمل أنساقه الإبداعية- هو في حالة من الصعود التي لم يألفها في العصور السابقة، فالمطابع لن تبخل بتقديم العناوين الجديدة على مدار الساعة، ومثلها صفحات التواصل الاجتماعي، والمواقع التي باتت تقدم نفسها بديلاً للكتاب المطبوع، ولن ننسى المقاهي الأدبية، وما تقدمه لروادها من ألقاب أدبية خاوية من أدنى درجات الأدب أو المسؤولية، أما صفحات التواصل الاجتماعي فتستحق- وبلا منازع- أن تكون بالمقدمة، لاجتهادها في منح الثناءات، والمدائح، وشهادات «الدكتوراه» الفخرية المزخرفة بالتيجان العلمية والملكية، لكل عابر سبيل، من دون أدنى خجل من المانح ومن الحاصل على هذه المنح الخلبية!!..
– دراسة الظاهرة، والوقوف على أسبابها يحتاجان بحوثاً سيكولوجية للشخوص الذين يسيرون في هذا العالم المظلم، ولن يجنوا من ثماره سوى الابتعاد عن مشكلاتهم الحقيقية، والمزيد من السخرية، والتي بدورها سوف تكرس هامشيتهم أمام أنفسهم على أقل تقدير، وأيضاً نستطيع دراسة الظاهرة من وجهة نظر ثقافية، وإرجاء خلفيتها إلى غياب «الأدب» عن مجتمعنا بشكل صريح، بمعنى؛ عدم إيمان الجزء الأكبر من أفراد المجتمع بمهمة الأدب، ودوره في تنقية المجتمع من الشوائب التي تقف عائقاً أمام تقدمه، وأيضاً نستطيع الاعتماد على الأرقام في رسم الخط البياني، لنكتشف تناقضها المطلق مع الخط البياني الرقمي لكمية الإصدارات الورقية والإلكترونية، أي أن هناك عزوفاً شبه تام عن القراءة، حتى من الذين يقدمون أنفسهم مسبوقين بألقاب أدبية!!..
تقدم الدراسة السيكولوجية للظاهرة، البنية النفسية الهشة للإنسان المقهور، المستلب بطموحات كاذبة، إلّا أنه يستسهل السير في دروبها، لكونها تعفيه من القيام بالفعل النهضوي الصعب المراس، وتقدمه للآخر بأسهل الطرق على أنه جزء فاعل في حركة التقدم، والتي لا بدّ لأي مجتمع أن ينضوي تحت أنساقها المعرفية ليحقق على الأقل معاصرته للتطورات المجاورة، والتي تلعب الدور الأكبر في تهميشه، في حال كان بمنأى عنها.. الظاهرة الثانية عند تقديم دراستها، سوف تؤكد صحة النتائج السابقة، وتضيف إليها خديعة المبررات التي تدفع الفرد المقهور لتبنّى نقاطها، والسير بها من دون رادع، من تلك المبررات إيمانه بأنه العارف الوحيد- من دون مرجعيات- بكل التفاصيل التي جعلت منه شخصاً هامشياً، ولقناعته بأن النهضة تحتاج فعلاً جماعياً، فإنه يطالب نفسه برفد معرفته إلى الآخر، مستعيناً بالألقاب التي حصل عليها من خلال تلك الفوضى المجانية التي منحته إياها المطابع الحديثة، والمواقع الإلكترونية، وصفحات التواصل الاجتماع، وأهّلته- من وجهة نظره ليشغل مكان الريادة في مجتمعة – وهو أيضاً السبب الذي جعل الخط البياني للعناوين والأسماء الأدبية في حالة من الارتفاع المخيف، مقابل تدنٍ واضح في مستويات التلقي لدرجة تقترب من العزوف التام عن المنجزات الأدبية، حتى ممن يتوافر لديهم الوقت والرغبة في المتابعة، وهذه الأخيرة تشكل أيضاً ظاهرة مستقلة تستحق الدراسة، لنصل إلى أن الظاهرتين السابقتين، وما تقدمانه من أدب رثٍّ، قد وفّرتا الأرضية الخصبة لهذا الانكفاء المميت عن القراءة بمبررات جعلت من الصالح والطالح في فردة ميزان واحدة، وهذا المبرر تتحمل مسؤوليته المحاباة، وتعويم المصالح الدنيئة على حساب المسؤولية التاريخية، وغياب النقد الجاد القادر على تجفيف منابع المتسلقين، والارتقاء بالأدب، ليأخذ دوره كنسق معرفي قادر على دفن سلبيات السائد من دون رحمة، بصفته المخول الأكثر تأثيراً في مشروع النهضة..