مقابلة العمر
كنت حريصاً تلك الليلة على أن أنام، على غير عادتي، قبل منتصف الليل لأكون على أهبة الاستعداد للمقابلة باكراً، فأوصيت موظف الاستقبال في الفندق بأن يوقظني عند الساعة السابعة تماماً، وما إن خلوت إلى السرير حتى بدأت الذكريات تتدفق في مخيلتي كشريط سينمائي عن كل ما قرأته في سبعينيات القرن الماضي عن هذا الرجل الذي سوف أحاوره في الصباح.
كان المطر ينهمر بغزارة فائقة على مدينة باريس محدثاً جلبة قوية تتناهى إلى مسامعي من خلال النافذة المغلقة بإحكام، ما زاد من أرقي وتوتري ومهابة مقابلة هذا الرجل الذي كان من ألمع صحفيي عصره في ستينيات القرن الماضي بل أبرز محرر صحفي في مجلة “الأزمنة الحديثة” التي كان يصدرها الفيلسوف جان بول سارتر.
رحتُ أسال نفسي قبل أن يغالبني النعاس نحو الساعة الواحدة ليلاً، من أين سأبدأ حديثي معه غداً.. من أدغال بوليفيا حين كان يرافق تشي غيفارا، ويرسل تقاريره الصحفية بشكل شبه يومي عن تمدد الثورات الشعبية كالنار في الهشيم في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية التي كانت ترزح تحت نير وعبث وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، أم مِن دخوله منتصراً إلى كوبا مع رفيقي دربه في النضال، تشي غيفارا وفيدل كاسترو، أم عن مرافعته الشهيرة أمام قضاة محكمة أمن الدولة في بوليفيا بعد سجنه وخروجه بتدخل شخصي من رئيس بلاده إثر الضغط الذي مارسه الفيلسوف سارتر بهدف تحريره، وكان له ما أراد؟.
قلت في خلدي قبل أن أستسلم لسلطان النوم، سأترك الأمور تأخذ مجراها الطبيعي، ولنبدأ من حيث يفرض الحديث نفسه تلقائياً.
خرجت في الصباح من محطة المترو الأقرب إلى قصر الإليزيه قبل نصف ساعة من الموعد.. كانت تنملكني رغبة بإلقاء نظرة على الشوارع القريبة المؤدية إليه. وهذا هو الفضول الصحفي بعينه.. مررت أولاً من أمام الباب الرئيسي للقصر.. كان ثمة حارسان بثياب عسكرية مزركشة تعود لتقاليد الإمبراطورية السابقة.. كانت حركة المارة والسيارات شبه عادية في كل الشوارع المحيطة بالقصر، والمقاهي الفخمة المنتشرة حوله تغصّ بنساء ورجال يتناولون قهوة الصباح ولا تخفى علامات السعادة على وجوه الكثير منهم.
إنها العاشرة إلا خمس دقائق.. عدتُ أدراجي مسرعاً باتجاه الباب الرئيسي، وما إن أخرجت بطاقتي الصحفية لأحد الحراس حتى أومأ لي بحركة من رأسه نحو المدخل، حيث تنتظرني فتاة طويلة القامة ترتدي “تايور” أسود اللون وقميصاً ذهبياً مع ربطة عنق ماسية تتوسط شعرها الكستنائي المنسدل على كتفيها.. أسرعت الخطوات نحوها، وقبل أن أصعد الدرجة الأخيرة مدت يدها مصافحة، وبصوت رقيق سألتني: «حضرتك الصحفي السوري، فلان؟»..
تفضل معي، مسيو دوبريه بانتظارك.. فتحت باب المكتب ودعتني للدخول.. كان ريجيس دوبريه يقف في منتصف مكتبه الرحب بعيداً عن طاولته، بيده كتاب يقلب صفحاته بتؤدة، طوى الكتاب وتقدم نحوي ماداً يده مرحّباً، مبتدئاً الحديث قبل أن يدعوني إلى الجلوس: منذ الأمس وأنا أقرأ في هذا الكتاب المرجعي عن تاريخ سورية.. لم أكن أعرف عنها شيئاً قبل طلبك مقابلتي، وسألت نفسي تكراراً: لماذا يأتي صحفي من سورية لإجراء حديث معي، فأنا كما تعلم مستشار خاص للرئيس عن أمريكا اللاتينية، واليوم عرفت أنك قادم إلينا من بلد ذي تاريخ عظيم ومشرف، فتحمست للقائك.. وأضاف: لفتني في ورقة أسئلتك التي أرسلتها يوم أمس أنك تعرف الكثير عن تفاصيل مرحلة سابقة من حياتي، وهذا ما زاد من رغبتي أيضاً بلقائك.
دخلت السكرتيرة تحمل صينية فيها فنجانا قهوة مطليان بالذهب، فقال: تفضل هذه ضيافة الاستقبال، لكننا سنتناول شيئاً آخر بعد قليل.
وضعت آلة التسجيل الصغيرة على الطاولة بيننا وقلت: لنبدأ من آخر مشوار حياتك، حيث أنت الآن في قمة هرم السلطة، ولنعد تدريجياً إلى ريجيس دوبريه، الصحفي التقدمي الثوري المناصر لقضايا الشعوب المضطهدة في ستينيات القرن الماضي، وصولاً إلى انضمامك لفيدل كاسترو وتشي غيفارا وسنوات سجنك في بوليفيا، ألا ترى أن ثمة تناقضاً تاماً بين ماض ثوري وحاضر مخملي في مكتب فاخر جداً مجاور لمكتب رئيس دولة رأسمالية كنتَ تلعنها وربيباتها على صفحات مجلة الأزمنة الحديثة؟.
أطلق ضحكة واسترخى في مقعده الوثير، وأردف: لكل مرحلة في عمر المرء تطلعاتها ومتطلباتها، حين كنتُ أرافق غيفارا في أدغال أمريكا اللاتينية، كنتُ شاباً عشرينياً، يتوق لتغيير العالم، أنا الآن في العقد الخامس من العمر، أدركت بعد أن نضجت تجربتي أن تغيير العالم يكون في القرب من مواقع صنع القرار الدولي، وليس في حرب العصابات التي كنا نعتقد أنها السبيل الوحيد للوصول إلى السلطة وفرض ديكتاتورية البروليتارية حين تمكنت وكالة الاستخبارات المركزية من تشي غيفارا واغتالته.. هي لم تقتل ثائراً أممياً فحسب، هي دفنت معه في قبره المجهول فكرة الثورة بحد ذاتها.