ثروة ضائعة
في كل مرة أخطف فيها “رجلي” كما يقال إلى قريتي في ريف حماة المهمل كحال أغلب أريافنا، أدرك تماماً أن نصف مشكلتنا الاقتصادية الحالية يكمن في “التخلي” غير المبرر عن مزايا أريافنا النسبية وإبقاء خيراتها “دوغما” بلا استثمار، وطبعاً هذا “الإدراك” ليس براءة اختراع كوني ابنة هذا الريف ومهتمة بتحسين بيئته وجيوب أهله، فكثر قبلي وسيأتي بعدي آخرون يكررون نداء الاهتمام بالأرياف ذاته، لكن الطامة الكبرى في صمم الآذان بدليل تراجع حال الأرياف وتردي خدماتها بحيث يشعر زائرها وكأنه في العصر الحجري بلا مبالغة.
مشكلة أريافنا الغنية بمواردها رغم كل هذه الأزمات ليست فقط في غياب الكهرباء والمياه أو نقص المحروقات أو جنون الأسعار الذي يضاهي أسواق المدن لكونه لا يوجد رقيب ولا حسيب، وإنما المشكلة الأكبر في الهدر المفرط لمواردها في ظل غياب التخطيط المدروس، الذي لو وجد منذ عقود لكان الوضع مختلفاً تماماً عبر إقامة مشاريع زراعية وسياحية تحول الميزة النسبية لكل قرية إلى واقع ملموس ينعكس خيراً على أهلها الغارقين في فقر “لا يرحم” والمتروكين تحت رحمة التجار كنتيجة طبيعية لعدم استثمار مقدراته الحيوية وتحديداً الزراعية وتصنيعها، والذي وصفه أحد الصناعيين بـ”الثروة الذهبية”، التي للأسف “ضُيعت” بسبب قلة حيلة المعنيين وإغفالهم شؤون الريفيين، لكن الشيء المبشر أنه لا يزال بالإمكان تعويض الخسائر الكبيرة المقدرة بالمليارات في حال إدراك خطورة هذا الفعل، الذي يحتاج تصحيحه إلى تقديم الدعم الكافي للأرياف ومنح أهلها والمستثمرين امتيازات تشجعهم على إنشاء مشاريع ذات جدوى اقتصادية تستثمر في الموارد غير المستغلة.
إخراج الأرياف من دائرة الإهمال والتوجه صوب استثمار نافع يعد نصف الحل لمشكلتنا الاقتصادية، وهذا يحتاج قرارات حاسمة وجريئة تدعم الفلاح وأرضه وتجعل القطاع الزراعي أولوية في كل الخطط والبرامج والتركيز على التصنيع الزراعي، وقتها لن يهجر ناسه أراضيهم ليهرولوا نحو وظيفة براتب محدود طالما سيكونون من منتجين ومولدين لفرص عمل وداعمين أقوياء للاقتصاد المحلي، وهذا متاح ولا يحتاج سوى إدارة وإرادة فعلية مرفقة بتوقيع أخضر يضمن إنهاء عتمة الأرياف القسرية والانتقال إلى نور الإنتاج المثمر.