في السنوات الأخيرة من حياة كارل ماركس، التي عانى فيها مرضاً شديداً، نصحه الأطبّاء بالاستشفاء في بلد دافئ، وكانت الجزائر يومئذٍ في بدايات وقوعها تحت وطأة الاحتلال الفرنسي، فقصدها الفيلسوف وأقام في عاصمتها ما يربو على أربعة أشهر، وفي سياقٍ موازٍ كانت الموسوعة الأمريكية قد كلّفته بكتابة مادّة (علمية) عن الجزائر، وقد شكلت تلك المادّة (الموسوعية) فيما بعد, كتيّباً صغير الحجم (مترجماً إلى العربية) يتضمّن رؤية ماركس للجزائر من وجهة نظره في تلك الأثناء.
ما يثير حفيظة القارئ العربي في تلك المقاربة التي أنجزها ماركس، موقفه العدائي ضد الثورة الجزائرية التي قادها في حينها الأميرعبد القادر الجزائري الذي اتّخذ ماركس منه، ومن ثورته ضد المحتلّ الأوروبي، موقف الرفض والاتّهام بالبداوة، وممارسة الفوضى وارتكاب القتل, والدونيّة الحضارية، متبنّياً في هذا الشأن موقف المستعمر الفرنسي الذي كان يرى احتلال الجزائر عملاً أخلاقيّاً يستهدف نشر الحضارة الأوروبية، ورفع شأن المتخلّفين، وكأنّ الاحتلال الفرنسي تضحية عظيمة يبذلها الفرنسيون كرمى عيون الجزائريين البداة العنيفين، الأجلاف ناكري الجميل، وما إلى ذلك.
لا شكّ في أنّ ماركسيين عرباً كثيرين تمنّوا ألاّ يكون كارل ماركس قد كتب تلك المادّة التي لاحظ فيها أنّ الصراع في المنطقة العربية ليس صراعاً طبقيّاً، على غرار الصراع في أوروبا الرأسمالية، بل ربّما كان قائماً على أسس أخرى لم يذكرها ماركس بتفصيلها المناسب، ومع ذلك، سعى مترجم الكتيّب إلى تلمّس بعض الأعذار للموقف العدواني الذي اتّخذه ماركس من الأمير عبد القادر وثورته، ومن الشعب الجزائري، وموقفه الملتبس آنذاك من فكرة الاستعمار وحق الشعوب في تقرير مصيرها. فيذكر المترجم أنّ مضمون الكتيّب تأثّر كثيراً بالظرف الصحي الرديء الذي عاناه ماركس في الجزائر العاصمة التي أمضى فيها أشهراً شديدة البرودة، وذات أمطار غزيرة فاقمت وضعه الصحّي المتردّي، فانعكس ذلك على طبيعة الرؤية الماركسية التي اصطبغت بالعامل الذاتي الضيّق في حينه. أستبعد أن يستطيع هذا التوضيح تسويغ جميع ما ذهب إليه الفيلسوف في مادّته الخاصّة بالجزائر بوصف النزاهة العلمية المتعالية عن مختلف العوامل الذاتية هي التي يجب أن تحكم كلّ شيء.
لا يجوز أن تذهب مقاربة ماركس للمسألة الجزائرية بجميع محاسن ما أنجزه الفيلسوف الإنساني العظيم الذي تحضرنا الآن عبارته التي يمكن تناولها في معزل عن ملابساتها الخاصة برؤيته المبسوطة في الكتيّب: “لعنة الحضارة أفضل بكثير من براءة البداوة”.