بعد قراءات مديدة في الإدارة، ورسم الخطط الاستراتيجية والتكتيكية، والموازنة بين الأساسيات والثانويات، ومواربة العقبات، أَعْلَنَها وبكامل الإرهاق، أن التنظير شيء، والواقع شيء آخر تماماً، فهو متشابك أكثر من خطوط الهاتف في «المزة 86»، وعشوائي أكثر من بيوت «عش الورور»، وغير منضبط لدرجة تفوق انقطاعات التيار الكهربائي، وسوداوي كحال مرضى السرطان المُعنّد، ومُغلق على ذاته مثل أحجية «الكورونا» بأبعاده العالمية والمحلية، وغامضٌ، مُستَحْكِمٌ، مُسْتَعصٍ، وكأنه معادلة مهما حاولت أن تُساوي بين طرفيها، لا بد أن يظهر عنصر مجهول جديد ويُخرِّب الطبخة كلّها.
فإن أصبحت المواصلات مؤمنة وجيدة، يصبح المازوت مفقوداً، وإن توفّر الوقود تُغلَق بعض الطُّرقات وتزداد التحويلات، وإن أُصْلِحَت كل تلك الأمور ترتفع أجرة التوصيل، بذريعة غلاء قطع الغيار، أي إن المواطن صار يشترك مع السائق في دفع أجرة الميكانيكي وتغيير الزيت وفي قيمة الإصلاحات الدورية وغير الدورية، وكأنه لا تكفيه معاناته الشخصية، فإن رَضِيَت مؤسسة المياه وفتحت صنابيرها، تنقطع الكهرباء، فلا تمتلئ خزانات البيوت، وإن وُصِلَ التيار تنقطع المياه، وكأن الموضوع «مجاكرة فوق مجاكرة»، وإن لجأ إلى صهاريج التعبئة، ينصدم بالأسعار الفلكية، وتبلغ درجة رضوخه لمرارة الواقع، أنه قد يسحب الخرطوم إلى السطح بحجة أن صاحب الصهريج لم يعد قادراً على تحمُّل أعباء أجرة العامل، وكأن الكل اجتمعوا على السَّحب من المواطن المنتوف من دون نتف، والذي بات يصبر على الصبر بحدّ ذاته، ويرضى بأن يحصِّل خبز يومه ولو بضعف ثمنه من عند المعتمد، كما أنه يساهم مُرغَماً بدفع أجرة السوزوكي التي تنقل خبز ذاك «الذي لا يُعتَمَد عليه» إلى دكانه أو بيته، ومثل ذلك يشارك المواطن من ماله الشحيح أساساً في دفع الفروقات الناجمة عن ارتفاع أسعار الطوابع، وأجور المعاملات الرسمية، والارتفاعات في فواتير الهواتف الأرضية والجوالة… ولسان حاله يقول: «ما تصبرنيش ما خلاص ده أنا فاض بييّ وملّيت».