للبُرِّ والورد
بين الماديّ والمعنوي، بين ما يُحس، وما يُلمس ويُجسُّ، علاقةٌ تبدو جليّةً أكثر، عند الرخاء والشدة، وعند الصحة والسقم، ولعلَّ لمجموعة القيم السامية العامة تدرّجاً في الكم والنوع، والقدْر والمقدار، وذلك أشبه بشجرةٍ باسقة وارفة في فضاء أضوائها، وعميقة متجذرة في أرض مائها وغذائها.
ولكي لا نشتتَ الأفكار نخرجُ من جملة السياق العام إلى الأمثلة المحددة في عناوين بعينها، ولتكن واحدة من أكثرها رقيّاً في عالم الإنسان، وأعني بذلك الحب بمعناه العميق من جهة والسامق من جهة أخرى، كيف يؤثر الحب كواحد من أسمى سمات المرء المعنوية على تفاصيل الملموس من حاجات الجسد وعلله؟
جاء في (المريض الاستثنائي) لمؤلِّفه أومبرلي سايكل ما ملخَّصُهُ أنَّ للحب قوةً خارقةً في المقاومة الذاتية في حالات شتّى، وتناول مستأنفاً سلبية (الأطباء الآليين) ومردُّ هذا التوصيف السلبي لهم هوعدم اهتمامهم بشخص المريض، ونحن نفهم من ذلك مستنتجين بكل سهولةٍ ويُسر، أنّ معرفة المريض هي أهمُّ بكثير وأولى من معرفة مرضه، والمقصود بالمعرفة هنا، وعي نمط شخصية المريض وظروفه واستنهاض قواه المعنويّة، لأنَّ ذلك يُعدُّ عند من يعي وينظر بعين الطبيب ذي الحكمة، رؤية مستنيرة تقدّر أوّل ما تقدّر أهمية الجوهر في عطر الزهرة لا في شكلها، كما يقول جبران، وهذا في منظور الحكمة مفتاح العافية والشفاء، ولذلك فإنَّ لغةَ الحضارة الطبيّة تكون في أرقى درجاتها عندما تتكلم بمثل هذا المنطق النبيل، ونحن نعتقد أنّ السلامة تكون تامة حين تتكامل أدوار طرفيها المعنوي والمادي، وهذي خلاصة تجارب بشرية طويلة لذوي الألباب المخلصين وليست مجرّد كلام من فراغ.
فلا يوجد إنسانٌ بإمكانه صناعة حبة قمح تنتج الحياة، ولكنَّ معظمهم يصنعون أشياء تشبه الحياة، وهذا تحدٍّ كبير وأكثر من كبير لأنه مستمر، من أجل هذا فلا بدّ من التمييز بين ما هو جوهريٌّ أصلي، وبين ما هو عابر، فليس الذكاء بالذاكرة كما كان يرى الناس قبل هذا التطوّر الهائل في المعلومات والدليل هو أن الذاكرة أضحت تُستدعى بـِ (لمسة زر)!.