الواقعية والحياد وألاعيب لفظية أخرى
ادريس هاني:
ليس من اختصاص علم التّوقّع استشراف تفاصيل المدى البعيد، فالمستقبل زاخر بالاحتمالات، أقربها للوعي تلك التي تفرضها تحوّلات الشروط التّاريخية، باعتبار أنّ الأحداث هي من حيث ارتباطها بتلك الشروط، هي قاصدة في تعاقبها. فحين تصبح خططنا على المدى البعيد، ندخل في ضرب من الكهانة، ربما تدعونا الواقعية – كما دعا جون مينار كينز في ذلك المنعطف الكبير وانهيار فكرة التوازنات الحتمية للسوق- إلى الاعتراف، بأننا على المدى البعيد كلنا سنموت. بل إن شئت تأمّل ذلك بمزيد من الوعي بصيرورة الواقع وتحوّل الشروط الاجتماعية والتاريخية وانقلاب الجغرافيا وتحوّل السياسات، فإنّنا لسنا نحن فقط من يموت، بل ثمة شروط كثيرة ستموت لتفسح المجال لشروط أخرى جديدة.
في سوق الهواة، يتجاوز التوّقع المسموح به، أو ما يمكن أن نعتبره الاستشراف في حدود الواقع، أي ما تؤشّر عليه الشروط على أرضية تعليل منطقي للأشياء. لقد تمّ تسليم العقل السياسي العربي لخبراء هواة ومنظرين مزيفين، لقد ارتهن النقاش العمومي لهواة يتكاملون مع الذّبابية الإلكترونية، في نوع من الاستهتار بجدية الحرب والسلم في المجتمع الدّولي. ما يؤكد على أنّنا نؤسس لكوميديا سمجة في نقاشنا العمومي، ثمة إذن انهيار يمسّ البنية الفوقية، التي تبدو مفتقرة للتشطيب.
لم ينهض المثقف، المثقف الحقيقي، بمهمّته التّاريخية، نتيجة الاستبعاد الممنهج ونتيجة رخاوة نمط من الثقافة المستقيلة، الثقافة النّابتة في السطوح والأسوار، العاجزة عن مفهمة المدلولات التي يقذف بها الواقع في مسار تطوره.
بل الأنكى من ذلك حين يختار لنفسه موقفا تبريرياً، يستند إلى لعبة تزييف المفهمة.
تكمن خطورة المثقف هنا، بل هنا هو أخطر من الدّول، لأنّ الدول عادة ما تميل إلى اختزال تطلعاتها في مصالح لا تتجاوزها، بينما المثقف في التزاماته القيمية الكونية، يدرك أنّ مهمّته الأساسية تكمن في بناء المفاهيم وتصحيحها، بل تصبح الواقعية والحياد من الآليات الدفاعية اللاشعورية للمثقف المستقيل، بعد أن يُفرّغ الواقعية من دلالتها الواقعية، وهو ما يستدعي عودة الواقع للواقعية، منذ صارت الواقعية دعوة زائفة للالتفاف على الواقع نفسه.
حين يتشبث المثقف بالحياد، فهو يتخلّى عن مهامه التاريخية في المفهمة من حيث صلتها بالفكر ومن حيث صلتها بالواقع. ليس أمام المثقف المزيف إلاّ أن يغير الواقع نفسه بضخّه بمزيد من الوعي الزّائف، حين يتوسل المثقف بالحياد استناداً للتعصب للهوية المبسطة، التبسيط هنا غالباً ما يكون مقصوداً، تصبح نزعته المحلية ضرباً من الفاشية.
تكمن أهمية المنعطفات التّاريخية الكبرى في قدرتها على تمكين العالم من فهم ما كان غير ساطع من الظواهر الاجتماعية. فالأحداث الكبرى تطوي كلّ أشكال الزّيف، وتختصر حافة السقوط أمام الوعي الزّائف، ستنتهي الأحداث إلى ما هو مقصود لمكر التّاريخ، وهذه المساحة التي تجري بمنطق خاص، هي ما يغيب عن من يبنون على تكهّنات مفرطة مستقبلات تناقض منطق الأشياء، وتجعل من التضحيات هدراً.
وأيّا كان الأمر، فالتّاريخ مستمر بمكره أكثر مما تعيه عقول اختارت لعبة التقمص والإسقاط، ومكر السياسات مهما تشاطر، فهو أضعف مكراً من مكر التّاريخ، تلك العوامل الميكروفيزيائية التي يصعب قياسها ولا حتى مفهمتها إلاّ كعنوان عام لحركة التّاريخ، فإمّا أن تنسجم حركة الإنسان مع حركة التّاريخ وإمّا أن يصبح مكر التاريخ ضد مكر البشر، فالأنس بالسباحة في البحر من دون معرفة بعوائد المدّ والجزر، ومكر الموج، هو الصورة التي نفهم من خلالها الأنس بالسباحة في بحر التّاريخ واستسهال مكره الذي تزول منه الجغرافيا والجبال، هذا المثقف الهارب من مسؤوليته التّاريخية هو خائن للمعنى، وعن أيّ معنى ستُحدِّثُنا «بومة منيرفا» حين ينتهي مفعول مكر التّاريخ وتتبدّل شروطه، فمهمّة المؤرّخ نفسه تبدأ من ميلاد الحدث، وليس بعد أفول الشّمس، وحين لن يعود للتّاريخ سوى طعم الحكاية.
كاتب من المغرب العربي