الصّدى لا يحصل حين يتشتت الصوت بين الجبال فقط، بل قد ينبعث بعد انتهاء حديث، يعتقد صاحبُه أنه انتهى بقضّه وقضيضه لكن ما يلبث أن يدورَ في خلَده كأنه “كتلةٌ” تحتاج إلى صقل لتركنَ في مكان ما وتستقرّ، فما إن انتهيتُ من جلستي في حضرة الكاتبة “ألفة الإدلبي” في بيتها على سفح قاسيون حيث تناولنا القهوة معاً، من صنع يديها، وفاحت رائحة “المانوليا” بحضور السيوف الدّاغستانية، إرثِ جدّها لأمها، وغادرتُ بنشوةِ لقاء كاتبةٍ كبيرة تُرجمَت أعمالها إلى سبع لغات، حتى تذكرتُ قصةً روتها من صبا دفع ثمناً لحادثةٍ حصلت في الطفولة، وهي من القصص التي تستوقف سامعَها ملياً!
حكت السيدة “ألفة” أنها ذهبت مع رفيقاتها وهن في المرحلة الابتدائية إلى معمل “تريكو” حديث في دمشق، وطلبت حياكة العلَم السوري على كنزات بيضاء ليلبسنها تحت ملابس المدرسة السوداء أثناء الخروج في مظاهرة تندد بالاستعمار الفرنسي، وكانت مديرة المدرسة فرنسية، وظّفت واشيةً نقلت لها خبر البنات على الفور، وقامت المديرة المتعصبة بقمع الطالبات وحرمانهن من الدراسة وطلَبِ أولياء الأمور لمساءلتهم ومنع بناتهم من هذا السلوك “الشائن”!
حين كبرت أديبتنا، واستقلت سورية ومرت سنواتٌ كانت قد تزوجت وأنجبت أبناءً، اضطرت للسفر إلى باريس لشأن ما، فإذ بالسفارة الفرنسية تفاجئها بمنع دخولها بسبب تلك المظاهرة الاحتجاجية وتبرز صورتها بملابس المدرسة والعلم السوري يبدو تحت الملابس السوداء، محفوظة في وثائق السفارة!
بعض القصص لا يحتاج إلى تفاصيل إضافية ليعطي العبرة بتمامها! بعض القصص يكفي أن يُسرَدَ منه “المتن” ليكتمل بلا عناء!
كيف تمت التسوية، فيما بعد، بين كاتبةٍ فذة أعطت روحها لوطنها فعلاً وسرداً وإبداعاً وبين مستعمِرٍ أغرق العالم بمديح نفسه كأمةٍ لم تجد غضاضةً في انتحال الفكر الإنساني وتسيُّده عاصمةً للأنوار؟ وكيف حملت الأقدار كاتبةَ “دمشق يا بسمة الحزن” لتتوفى في باريس قبل أن ترقد في الوطن رقدتَها الأبدية؟ لا أعلم!
في زيارتي اليتيمة لها أواخر القرن العشرين، وربما على كثرة الأحاديث التي تناوبت بيننا لم نأتِ على ذكر كاتبة فرنسية كانت تجد أن من حقوقها أن تحاضر في جامعة القاهرة، ثم تغادر إلى “تل أبيب” لتؤكد انتماءها المطلق إلى دولة عنصرية مستحدَثة بقوانين استعمارية، وحيثما حلّت كانت متماهيةً مع أفكارٍ تبشر بها نساءَ العالم، مؤسّسة لفكرٍ اختُصر “بالنّسوية”!
نعم! هنا كاتبتان من ثقافتين مختلفتين ولنا أن نضعهما في كفتي ميزان!
نهلة سوسو
122 المشاركات