إبداعٌ يتجاوز الزمن..  الملتقى السوري للنصوص القصيرة  يتعدى حدود الزمان والمكان بأعمال وجيزة

تحقيق – بارعة جمعة:

كآلة تصوير، لن تتعدى الدقائق لإيصال صورة جميلة مفعمة بالإبداع، تأخذك لعوالم من الشجن المحاط بحب المعاناة، والتغني بأمجاد الماضي، وندب الحظوظ البائسة التي تُلاحق المرء في أيّ مكان لا يشبهه إطلاقاً.. هي أشبه برحلة ليست طويلة لحد الملل، أو قصيرة لدرجة عدم الاستمتاع، بل منطقة وسطى تفصل بين الثرثرة والعجز عن التعبير حيث يكمن الإبداع المستمر ضمن فصول الملتقى السوري للنصوص القصيرة الذي أقيم ليومين، والذي مازال يحتفي بنتاج شعرائه ومؤسسيه، ممن تحتضنهم زوايا المركز الثقافي العربي في أبي رمانة، ماضين في تطوير جنس ٍأدبيٍّ يصلح لكل زمان ومكان، ويختصر من الحديث أقلَّه وأكثره معنىً.

إنه “العناد الجميل في زمنٍ صعب”.. كما تبعثُ إلينا الصديقة الأديبة “نهلة السوسو” .. إنه زمنُ الشعرِ البسيطِ بامتياز، زمن الأقصوصة والقصة القصيرة جداً، زمن الومضة والتوقيعة الشعرية، والعمودي الوجيز .. زمن النانو، وزمن الهايكو، وما يقاربهما من المقطوعات، والتغريدات الخاطفة، زمن المقولة الضاحكة.. هكذا افتتح مدير الملتقى الزميل الصحفي” علي الرّاعي” المهرجان السنوي للنصوص القصيرة بنسخته ال(٢٦) في يومه الأول، بعد انقطاع لمدة أكثر من سنة لأسباب عدة، في تأكيد منه على أهمية النوع الأدبي المُقدم، وما يعكس من أثر جميل في نفوس مُتلقّيه من الأدباء، أولئك الذين اختصوا بإيجاز القول بعيداً عن الرواية، التي وصفها صديقنا عرّاب “الهايكو” الشاعر محمد عُضيمة بأن مآلها إلى الرفوف والغبار.. كما تمنى شاعُرنا الكبير “نزيه أبو عفش” مرةً:

” آه! كم أتمنّى أن أختمَ سجلَّ هزائمي وكوابيسي؛ بكتابةِ قصيدةٍ عملاقة

(قصيدة مِن سبعِ كلماتٍ أو أقلّ)

تبدأ بكلمةِ : ” أحلم “…

وتنتهي بكلمة : ” وردة “.

انتظارٌ طويل على شرفات الأمل، حيث كانت البدايات جميلة، فيما النهايات كئيبة تترجل خلفها دمعة، حالات وجدانية معتقّة بتفاصيل الحب الأول تناولها الشاعر “عبدالله راتب النّفاخ” في نصوصه النثرية، إلى جانب الخيبات المتلاحقة حيث للزمن دوره في ترك المأساة المعنونة بلحظة انتظار وحيرة، لم تُخفِ ألمها ودهشتها لصاحبها قليل الحظ، والتعيس أيضاً فيما لو نظرت لجرأته حيناً وخيبته حيناً آخر، ذلك الكاتب الذي احتضن أفكاره وحملها لمكان ليس لها ليفقدها هناك دون رجعة:

حلّقت فكرة في رأسه

حاول أن يمسك بها فلم يتمكن

اختفت تلافيف دماغه

كانت سوداء فلم يستطع ان يلتقطها في الظلام

اعتصر فكره كثيراً ليبلغها.. فتقاطرت من رأسه

وحين بدأ يكتبها اختفت أوراقه

هي حالةٌ من الوعي، فرضتها الخسارات الكبيرة في حياة الفرد، أظهرها الأديب النّفاخ ضمن صورة غلبة العقل على القلب، في ميدان التّحدي، الذي لم يرضَ يوماً بأنصاف الأشياء أو بالمنطقة الوسطى، حيث الاتجاه هنا دوره في لعبة الربح والخسارة، في وقت لا يصلح العطار ما أفسده الدهر من قيم، اندثرت كما اندثر معها الكثير من الرغبات والأحلام.

فقد قلبه.. فتّش عنه كثيراً فلم يجده

لكنه فوجئ أن عقله ينبض بقوّة

الحقيقة لا تغيب، ربما الشمس هي من قالت ذلك، في يوم غائم لم تستطع تحمله.

كما الانتظار الذي لم يكن يوماً خياراً لأحد، بل هي لعنة الغياب، تجسيدٌ موجز لاحاسيس يومية يعيشها الانسان كانت صوراً وجيزة فيما قدمته الشاعرة “طهران صارم”، مجسّدة حال الأنثى بكل فصولها وحالاتها المكملة للرجل:

منذ أودعتك قلبي

وأنا أسير على روح عرجاء

حالة الشعر ليست إلا انعكاساً للروح وما تحويه من أنكسارات، بدت واضحة في شخصية الأنثى الأكثر تلقفاً للمشاعر وخضوعاً لها بتحويلها لواقع محسوس في كل مرة:

أنا امرأة أرقص غريبة كالمطر في الشوارع

كلما لاح لي قلب عاشق

ارتطمت بالأرض وصرت ماء

المستقبل يحمل الجمال بين ثناياه، كما حملته الأديبة “هالا الشعار” بين سطورها المعتقة بزهر النّوار في كل ثنائياتها الجميلة والملفتة:

ستكون قلباً حلواً

مخبأ بالخشب

هذه النوّارة

زهر النوّار

من أجل حبنا لاتطعمنا لوزاً مراً

غادرنا الثلج.. ورجع إلى قلوبنا نوّار

مؤججة بالنوّار اللوزة

شمس غاربة خلف نوّارة

غصّة الفراق، ووجع البعد، في ليالٍ حالكة السواد، ليست إلا صوراً للكبرياء المدفون داخلنا، نحن من اعتدنا الصمت أو الرحيل، مزيج من الخيبة المترافقة بمتانة القلب وحكمة العقل جاءت ضمن النصوص النثرية للكاتبة “فاطمة الحسين”، الحالمة المطمئنة لحكمة الأقدار، والمقدمة على الحياة بثقة ومحبة:

حلمت أن لشجرة الزيتون تلك.. قد نبت غصن جديد

حلمت أن ما من فرق بينك وبين مولد العيد

حلمت بأن الأرض تلبس سندسها.. والقلب المفطَور على السبح سعيد

غطى وجهه البريء بيديه الصغيرتن

مسح دموعه بثيابه المعفرة بالتراب

قدماه الرقيقتان تورّمتا من قسوة الحصى في المخيم عندما قيّدوه

في دفاتر منظماتهم الإنسانية (يتيماً) ومضوا..

لم تكن هموم المجتمع بعيدة عن فصول المشاركين بالملتقى، ليبرز أكثر من معنى في مشاركة نصوص الأديب “عبد الوهاب محمد”، أهمها أصول التربية التي لم تستطع الوصول حتى اليوم ذهنية الأبناء في ترك الأشياء أو التعلق بها، هي مفاهيم ليست ببعيدة عن تصورنا، نقلها محمد ضمن نصه “مشروع خدمي”، كنوع من المحاكاة لواقع ملموس عن النفوس البشرية، بكل طباعها الخيّرة والشريرة..

(بعد أن أصبحَ ابنُ القريةِ، مسؤولاً كبيراً في الحكومةِ، ذهبَ بعضُ وجهائِها الى مكتبِه مباركينَ له بالمنصبِ، ومعهم بعضُ المطالبِ الخدميةِ التي تحتاجُها القريةُ.

استقبلَهم ووعدَهم خيراً.. بعد عدةِ أيامٍ، أرسلَ لهم (بلدوزراً) ضخماً.. راح يسوّي أرضاً وعرةً بأطرافِ القريةِ تعود ملكيتُها للدولةِ..

وحين سأل الأهالي المهندسَ المشرفَ عن المشروعِ المقررِ أجابهم: قرر سيدُنا أن يمهدَ لكم هذه الأرضَ، ويبنيَ حولَها سوراً إسمنتياً ويضعَ لها باباً حديدياً جميلاً ويجعلَها.. مقبرةً للقريةِ)

حالة المثقف العربي عامة والسوري خاصة، لم تغب عن بال الأديب محمد، في وصف إنكار المجتمع وجوده واحتفائه به كأديب راحل بعيداً عن نتاجه الأدبي الذي استهلك عمره كله، ليبدو لدينا أن محمداً، يحاكي مجتمعاً بأكمله، من التربية للحالة الخدمية والثقافية، ما جعل لنصوصه انعكاسات خاصة، شبه حالة الاستقصاء الصحفي بربط خيوط القضية ضمن إيجاز واضح..

(ماتَ المذيعُ..

الّذي واظبَ على تقديمِ نشرةِ أخبارِ الثّقافةِ على مدى عشرينَ عاماً وأكثرَ.. وفي ورقةِ النّعوةِ كتبوا: ماتَ بعدَ صراعٍ طويلٍ معَ مرضٍ عضالٍ.)

هي الأنثى، رمز الحب والتضحية والوفاء، تتعلق بكلمة وتغرق بأخرى، لتبقى حتى الرمق الأخير تعيش وهج الذكريات تارة، وعمق المحبة تارة أخرى، ليس لضعف.. بل لقوة الحب من جانبها… ترانيم العشق وتفاصيله بدت جليّة في ابيات الشاعرة “سلام التركماني”، آخذة الحضور في رحلة لأعماق الحب والوجدان.. حيث لا حيلة لها سوى اللعب على الكلام للتعبير.. في وقت كل الحيل سواء.. لكن الكلام ذكاء.. وهو ما بدا في صور العناق المقترن بالدفء والحب..

(وقتها .. كنت الأذن الوحيدة لفضاء كلامك

ليتني كنت أذنين لأتسع لكلّه…)..

ولأن الصباح لا يحلو دون الحب برأي الشاعرة التركماني.. (حاول وبدراية أن تنتقي من السّكريات ما يناسب صباحك…)

ويستمر حضور الأنثى ضمن الملتقى.. لكن هذه المرة ضمن أبيات الشاعر عبد الحليم سعود، التي تنوعت بين النثر والشعر الموزون بمضمون واحد هو العشق، ولكن أي عشق هذا… الذي تفضحه العيون من النظرة الأولى، ومن ابتسامتها النادرة مصدر إلهام الشاعر الأول، نعم هي معشوقته مكتملة الأوصاف والمعاني أيضاً..

(بحضور عاشقة يرقّ حديثها

يشدو الجمال بأعذب الألحان

العشق يختبر الأنام وجيشه

يغزو القلوب بأنبل الفرسان….)

(توّاقة خضر العيون لمصرعي …

توق الصحارى للغمام الهامع

يلهو بريق الطرف في أفكارنا..

ماذا نقول لساكن في الأضلع

من كان يدمي القلب في نظراته..

أولى به منح الدواء الناجع)

تبقى معلقة.. بحبال الأمل.. هي الآمال البعيدة القريبة.. تلوّح من بعيد بخوف وخجل.. أيها الوطن.. معانٍ للغربة والإحباط والتعب برزت بقوّة بين سطور الكاتبة الشّابة “يارا الرّاعي”، جامعةً بين الحب والمعاناة بأوجه عدة، ومنددةً بالخلط الحاصل بين الأوراق، واختلاف المعاني كلها..

(أيها الوطن

الأمسى قصيّاً؛

لا تسأل الأماكن عني،

جميعها رددت اسمي غيباً،

وبأصابعها فككت حزني..

ووشت الشرفات بعطري.)

نعم.. ليس من العدل التضييق بمكان والإفساح بمكان آخر.. فكيف إن كان هذا هو حال النهر؟ تقول يارا:

(ليس عدلاً

أن يأتي العطشُ من النبع،

ليس عدلاً

إهانة الماء..

 

ليس عدلاً

أنْ تضيقَ الضفتان

على المجرى،

وخنقِ الماءَ في ساقية..

 

وأخيراً

ليس عدلاً

أنْ يستقبل البحرُ

عذبَ ماء النهر بالملح..

أو تهديدِ

الماءِ المختلف

بوعيدِ الموج وغصبه!!)

الجذور الضاربة بعمق التاريخ ليست حكاية ماضية بل متجددة دائماً، واليوم بدت واضحة في مشاركة الشاعرة “عتاب السّعد”، بأبيات اختصت بالشعر الوطني، تحكي عن الشهيد، ببسالته وتضحياته، وأخرى للعشق ولوعته لدى المحبين..

(سهر الليالي للقلوب محبّب

طيف الهوى بندى الصباح مطيّبُ

لن ترأف الذكرى بحال مولّهٍ

ألِفَ الثوانيَ خطوَها يتعقّبُه

أخفى دموعاً بين طيات الدجى

لم يدر إذْ هبّ الهوا تتسرّب

شوقٌ يداري وهجَه بتكتمٍ

كالجمر في أحشائه يتقلّبُ)

من منا لم يعشِ التناقض، وكيف لنا أن نكون هادئين متعبين بآن َمعاً..

(كانت منتظمة في عملها، لا تأخر، لا فوضى.. الترتيب سيّدُ الموقف.

فجأة أحسّت بعارضٍ صحي.. راجعت طبيبها: التشخيص عدم انتظام دقات قلبها.)

كان ذلك ممكناً ضمن “الأدب الوجيز”، الذي قدمته الشاعرة “ملفينا الشيخ”، محتضنةً الماضي بتناقضاته، فيما كان الحاضر الأشد تناقضاً، وسط انقلاب المفاهيم المعاصرة للحب والسياسة والعمل.. قرر أن يفضح عين الحقيقة، ويقابل الشر بالشر.. يكشف المتورطين ويسجن المجرمين؛ وهو يختبئ خلف قصصه القصيرة جداً.. ربما لم يسنح للشعراء القدامى امتلاك مفاتيح الإيجاز في طول القصيدة بل اختصروا ذلك بالمعنى، إلا أن شعراءنا اليوم يواكبون عصر السرعة، بالإيجار في اللفظ والمعنى، حيث لا متسع للحديث والسماع أكثر، ليأتي فن “الهايكو”، والأدب الوجيز كصورة مناسبة أكثر لواقعنا، وأكثر ملاءمةً لما يقوم به مؤسسو الملتقى السوري للقصص القصيرة على مدار (١٥) عاماً منذ التأسيس، مروراً بالتطوير وصولاً للشكل الذي هو عليه الآن، ليبقى خير الكلام ما قلّ ودلْ.

وعلى ما يُروى عن الأديب الفرنسي “فولتير” أنه قال: “فيما يخص هذا النوع من الأدب “كلُّ الأجناس الأدبية جيدة سوى الممل منها”.. والأدب الوجيز هو التعبير عن المعاني في الكلام القليل باستعمال تقنية التكثيف أو البلاغة في الإيجاز..

ومن نافلِ القول؛ إنّ الأدب الوجيز ليس وليد اليوم، فهو موجود في تراثنا الثقافي، غير أنه لم يتبلور نحو تركيز هذا النوع في سياق يمكن العودة إليه ضمن خصائص وسمات أو إطار محدد.. ومن ثمّ بقيت نصوصه متناثرة في المدونة السردية والشعرية العربية، ولم يصر إلى بلورة مفهوم نوعي وجناسي

على ما يختم به مؤسس ومدير الملتقى الشاعر علي الراعي …

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
مناقشة تعديل قانون الشركات في الجلسة الحوارية الثانية في حمص إغلاق الموانئ التجارية والصيد بوجه ‏الملاحة البحرية.. بسبب سوء الأحوال الجوية صباغ يلتقي بيدرسون والمباحثات تتناول الأوضاع في المنطقة والتسهيلات المقدمة للوافدين من لبنان توصيات بتبسيط إجراءات تأسيس الشركات وتفعيل نافذة الاستثمار في الحوار التمويني بدرعا خلال اليوم الثانى من ورشة العمل.. سياسة الحكومة تجاه المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والرؤية المستقبلية مؤتمر "كوب 29" يعكس عدم التوازن في الأولويات العالمية.. 300 مليار دولار.. تعهدات بمواجهة تغير المناخ تقل عن مشتريات مستحضرات التجميل ميدان حاكم سيلزم «إسرائيل» بالتفاوض على قاعدة «لبنان هنا ليبقى».. بوريل في ‏بيروت بمهمة أوروبية أم إسرائيلية؟ إنجاز طبي مذهل.. عملية زرع رئتين بتقنية الروبوت مركز المصالحة الروسي يُقدم مساعدات طبيّة وصحيّة لمصلحة المركز الصحي في حطلة القوات الروسية تحسن تموضعها على عدة محاور.. وبيسكوف: المواجهة الحالية يثيرها الغرب