تفعيل إستراتيجيات وثقافة التخفيضات أحد أهم أساليب تجنب الكساد.. وسياسات التحوط المفرط تودي بالبضائع الوطنية إلى الهدر
تشرين – حيدرة سلامي:
باتت مواجهة مخاطر الأسواق الوطنية هذا العام أهم المواضيع الملقاة على عاتق المحللين الاقتصاديين والقانونيين، حيث إنه ومع تتابع فترات الركود الاقتصادي، على مدى السنوات الخمس الماضية، باتت جميع الأسواق العالمية والوطنية اليوم، على مشارف استقبال كساد عالمي جديد، لاسيما فيما يعانيه سعر الصرف عالمياً، عوضاً عن الأوضاع غير المستقرة، فيما يشبه إلى نحو ما، الأزمة الاقتصادية التي أصابت العالم في ثلاثينيات القرن الماضي، فقد اقترب الكثير من الأسواق الوطنية والعالمية اليوم، من مرحلة فشل السوق، وهي المرحلة التي تتوقف فيها الأسواق عن التحرك بشكل مطلق، نتيجة تفاوت قدرات البيع والشراء لتصل إلى حد الجمود، فتتكدس البضائع داخل المخازن، من دون أن يكون للمواطنين القدرة على شرائها، الأمر الذي يلغي منفعة العمل المشترك بين المستهلكين والمنتجين.
أسباب فشل السوق
وفي مواجهة هذه التوقعات، يتباحث المحللون الاقتصاديون في العالم، في كيفية دراسة السوق من أجل حماية وتمكين المستهلكين من الحصول على المنتجات.
اقترب الكثير من الأسواق الوطنية والعالمية اليوم من مرحلة فشل السوق.. وهي المرحلة التي تتوقف فيها الأسواق عن التحرك بشكل مطلق
حيث يرجع الباحثون أسباب فشل السوق عادة إلى عدة عوامل رئيسة، منها تختص اليوم على ذكر عنصر غاية في الأهمية، وهو عنصر التحوط المفرط، والجدير بالذكر أن التحوط قد كان أحد أسباب ظهور الكساد العالمي في ثلاثينيات القرن الماضي، ونحن اليوم نعاني منه وبشكل ملحوظ ضمن أسواقنا.
والتحوط (Hedging) بشكل عام هو موقف يتم اتخاذه في سوق معين، و يتمثل في رفع أسعار السلع، لتجنب مخاطر السوق، فقد تكون السوق مهددة بتقلبات سعر الصرف، أو تكون الدورة الاقتصادية تمر في ظروف غير مستقرة فيرفع التجار أسعار السلع حتى يتجنبوا الخسارة المحتملة.
التحوط قد كان أحد أسباب ظهور الكساد العالمي في ثلاثينيات القرن الماضي.. ونحن اليوم نعاني منه وبشكل ملحوظ ضمن أسواقنا
وفي دراسة هذا العامل الأساسي، ضمن هيكل اقتصادنا الوطني، فنحن قد نجده موجوداً بشكل يدعو إلى الحذر من أن يعرض السوق السورية إلى مرحلة فشل السوق، وبالتالي الكساد.
التحوط المفرط
التحوط غير المجدي الذي تقوم به المعامل والمصانع والتجار، يكون عادة في رفع تكاليف إنتاج البضائع عبر خطوط الإنتاج، ذلك من خلال إطالة أمد التسليم إلى المستهلك النهائي، فنحن نلاحظ أن جميع خطوات السير على خط الإنتاج باتت تكلف الكثير ضمن أي مرحلة، سواءً كانت الاستخراج أم التحويل أو الدعاية أو التغليف أو النقل أو التوزيع، والبعض يضيف تكاليف وهمية على جميع هذه المراحل، بحيث يتحوطون من الخسارة المرتبطة بتغيير سعر الصرف، وما يرافقه من ارتفاع تكاليف التخزين والنقل، وفي ذلك أحد نقاط المفارقة؛ حيث إنه في حال انتهاء دورة البيع وعدم حصول التضخم المتوقع، يجب أن تتوجه المعامل إلى تصريف منتجاتها عملاً بسياسة التخفيضات لتصريف الفائض مما لم يتم بيعه، ولكن عوضاً عن ذلك يتم وبشكل ملحوظ احتكار الفائض من هذه السلع لبيعها في الدورة التجارية اللاحقة بربح مضاعف، أو نقل بعض منها لأماكن بعيدة عن أرض المنشأ، بحيث يتم إلحاق تكلفة النقل والتخزين عليها، لتعود بالربح الفاحش نفسه، وبذلك يتم حرمان المستهلك من فرصة التخفيضات.
تفقد السوق السوري الدخل الناتج عن بيع التخفيضات.. وهو يعد أحد أهم مصادر دخل الأسواق في الزمن المعاصر
ورغم وجود بعض السلع والأسعار المخفضة ضمن بعض الأسواق الوطنية، فإنه من الواضح أن كمية البضائع الرخيصة والجيدة، تكاد تكون غير موجودة نسبة إلى البضائع الممتازة، أي إن الموضوع ليس خاضعاً لأي نسبة توزيع بين هذه السلع للمستهلكين، ما يفقد السوق السوري الدخل الناتج عن بيع التخفيضات، وهو يعد أحد أهم مصادر دخل الأسواق في الزمن المعاصر.
ثقافة التخفيضات
تعدّ إدارة التخفيضات اليوم من أهم علوم إدارة خطوط الإنتاج، فإن كان دورها يقتصر على الجذب و التسويق في تاريخ التجارة، فقد تغير دورها اليوم لتكون أسلوباً يحافظ على ديمومة تبادل السلع التجارية على مختلف مراحل خطوط الإنتاج ويمنع الهدر، وذلك من مرحلة الاستخراج وحتى مرحلة التوزيع، وهي بذلك تقوم بتوفير السلع والمواد على جميع مستويات القدرات المادية للمستهلكين والمنافسين الصغار الذين قد يرغبون بشراء هذه المواد، فقد باتت الشركات والمعامل تنتهج سياسة التسويق مع سياسة التخفيضات باعتبارها طريقة في إدارة الإنتاج، بحيث يتم تقسيم السلع إلى عدة أنواع، استناداً إلى عدة أنواع من التخفيضات إلى المستهلكين ويتم بذلك دعم الدورة الاقتصادية للمنشأة، على مختلف مراحلها.
أصبحت ثقافة التخفيضات اليوم أسلوباً يحافظ على ديمومة تبادل السلع التجارية على مختلف مراحل خطوط الإنتاج ويمنع الهدر
وتصنف هذه الأنواع اعتماداً على نوع السلعة وإمكانية بيعها وزبونها، فهناك:
التخفيض التجاري
هو تخفيض استثنائي على سعر البيع الأولي، من أجل مراعاة عيب الجودة في البضاعة أو الفشل في تسليمها على النحو المرغوب فيه، وهي تكون في المراحل الأولى من الإنتاج، ويتم عرضها عادة لأجل الموزعين الثانويين على خطوط تصريف المنتجات، فعندما لا تتوافر في هذه البضاعة الشروط المثالية لتكون في مستوى النخب الأول، فيمكن الاستفادة منها عبر تصريفها للمستهلكين من الدرجة المتوسطة والثانوية.
فتحقق بذلك التنمية للمشاريع المتوسطة ويحظون بفرصة التعاقد مع الشركات الكبيرة والتعامل معها، ويتوفر كذلك للمستهلكين خط تصريف إنتاج أكثر ملاءمة لدخلهم.
التنزيل تجاري
أما النوع الثاني فهو التنزيل تجاري، ويعني التخفيض الممنوح لأهمية البضاعة مثل؛ (كثرة المبيعات أو كثرة الطلب على سلعة معينة ضمن فترتها الموسمية)، أو لمراعاة نوعية العميل، كالعملاء الدائمين والمخلصين والذي يكون الهدف عادة من منحهم التخفيضات، هو إيجاد سوق دائم لفائض منتجاتهم، وذلك لأن سياسات بلدانهم عادة لا تسمح برفع تكاليف الاحتفاظ بالبضاعة الثانوية القابلة للتلف، وذلك بقصد أن يتم منع احتكارها للموسم القادم، فلا تقبل سياسات هذه البلدان رسوم الشحن والتخزين والتغليف العالية على هذه البضائع، وتفرض على التجار أيضاً غرامات إن ما تم طرحها للأسواق بهذا الشكل.
مظاهر التكلف الإنتاجي باتت متعددة الأشكال وصار من الواجب على القانون السوري أن يواكب التشريع العالمي في ضبط هذه الظاهرة
حسومات أو انتقاصات تجارية
هو التخفيض الممنوح على مجمل العمليات التي تم إجراؤها مع العميل نفسه في فترة زمنية معينة، ويمكننا أن نطلق عليه التخفيض الاتفاقي، أي إن التخفيضات التي تهدف إلى طرح مادة معينة في السوق وتعنى باستثمار عائدات هذه المادة بشكل استثماري وتجاري، ويكون لهذا النوع من التخفيضات عادات أكثر الآثار إيجابية، لأنه يحفز روح المبادرة والتجارة عند المغامرين من التجار، نذكر منها على سبيل المثال “نستو ماركت” المعروف عالمياً، بإجراء تخفيضاته الأسبوعية ضمن أسواقها الخاصة حتى يمنع المنافسين من انتهاز سياسة التخفيضات ويسيطر بذلك على الشريحة الأكبر من الزبائن، كما إنه هناك هايبر ماركت، ولولو ماركت، وغيره مما له في مخازنه ومستودعاته الخاصة في تصريف منتجاته المنخفضة السعر، مع منتجاته ذات السعر المرتفع، فتصل إستراتيجية التخفيضات بهذا الشكل إلى مرحلة القاعدة المالية المستقرة في الاقتصاد الصناعي والتجاري.
التجارة دائماً كانت قائمة على المخاطرة ومن لا يجد في نفسه القدرة على الدخول في تقلبات السوق فهو لن يستطيع الاختباء خلف التحوط للأبد
ومن الجدير أن نسلط الضوء، على القانون السوري حين عالج المشرع السوري موضوع زيادة تكاليف الإنتاج على السلع، وذلك ضمن قانون حماية المستهلك فقد نصت المادة (12/ج) من قانون حماية المستهلك رقم /2/ لعام 2008 في سورية “المبالغة بوصف المنتج، بما لا يتفق مع الحقيقة والواقع الفعلي بهدف تشجيع المستهلك على اقتناء المنتج أو تلقي الخدمة”. بأنه أمر معاقب عليه، ضمن المادة (41) من القانون ذاته كل من يرتكب هذه المخالفة بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر، وبالغرامة من خمسين ألف ليرة إلى مئة ألف، أو بإحدى هاتين العقوبتين، أي إن المشرع السوري قد انتهج مواجهة التكلف غير المجدي بالإنتاج أسوة بغيره من الأنظمة القانونية العالمية، إلا أن مظاهر التكلف الإنتاجي باتت متعددة الأشكال وصار من الواجب على القانون السوري أن يواكب التشريع العالمي في ضبط هذه الظاهرة.
وفي النهاية ترى أنه من الواجب إلى جانب تفعيل الرقابة القانونية، أن يتم أيضاً تفعيل الدور الشعبي، فإن كان التحوط ضرورياً ضمن الفترة القادمة لمواجهة هذه التغييرات التي يخشاها اقتصاد الدول الكبرى، فإن التجارة دائماً كانت قائمة على المخاطرة، ومن لا يجد في نفسه القدرة على الدخول في تقلبات السوق فهو لن يستطيع الاختباء خلف التحوط للأبد، حيث إن السير في هذا الطريق سيصل إلى تعطيل السوق السورية في نهاية الأمر، ولأجل ذلك لا بد من السير في منظومة التخفيضات التجارية، وذلك لتوفير سوق مرنة قادرة على استيعاب ضغط الاقتصاد العالمي، وعلى تصريف المنتجات للمستهلكين، ليس فقط ضمن أوقات الكساد الاقتصادي بل وحتى ضمن أوقات الحصار الاقتصادي أيضاً.